أظهرت الأحداث والأزمات المتلاحقة التي عاشتها الدولة التركية داخلياً وخارجياً خلال السنوات الأخيرة مدى مساهمة الشعور القومي أو ما يعرف بـ«القومية التركية» المتجذرة في نفوس الأتراك في تجاوز جميع هذه التحديات والحفاظ على وحدة الدولة وقوتها.
وعلى الرغم من أن حزب الحركة القومية المعارض يعتبر رابع أكبر الأحزاب في البلاد ولا يمتلك سوى 40 مقعداً في البرلمان، إلا أن الشعور القومي العام يتجاوز مفهوم الانتماء الحزبي في البلاد التي تضم كافة التوجهات الحزبية والفكرية من حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ والعديد من الأحزاب اليسارية المتطرفة والإسلامية المتشددة.
لكن هذا المفهوم لا ينسحب على جزء من المواطنين من الأصول الكردية، فهم مواطنون في الدولة التركية لكن معظمهم لا يحملون الشعور القومي للدولة، فبينما ينخرط جزء منهم بالحياة العامة ومؤسسات الدولة ما زال الأغلبية يؤمنون ويطالبون بضرورة إقامة كيان كردي لهم جنوب شرق البلاد، وهو أحد أسباب الإجماع القومي التركي على رفض هذه الطموحات والمساعي.
الأزمة المتصاعدة منذ أيام بين تركيا وألمانيا على خلفية منع الأخيرة عقد اجتماعات كان سيحضرها وزراء أتراك في ألمانيا كانت آخر الأمثلة على هذا الأمر، فالمعارضة التركية وقفت إلى جانب الحزب الحاكم والحكومة على الرغم من أن الأزمة مع ألمانيا كانت على خلفية الحملات المؤيدة للتصويت بـ«نعم» في الاستفتاء المقبل على التعديلات الدستورية والتي ترفضها المعارضة بقوة.
وعقب الهجوم الشديد الذي شنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ألمانيا ووصف منعها التجمعات التركية بـ«الممارسات النازية»، أعلن دولت بهتشيلي زعيم حزب الحركة القومية المعارض دعمه لأردوغان في هذه الأزمة وقال إن «أردوغان ليس لوحده، وأنّه في حال اقتضى الأمر سيرافقه في رحلته إلى أوروبا»، مضيفاً: «أنا إلى جانب الرئيس لنرسّخ الروح التركية في أوروبا التي تُعدّ جزءا مهما من العالم التركي».
في السياق ذاته، ألغى «دنيز بايكال» زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق، زيارته لألمانيا على خلفية الأزمة في الوقت الذي توقع فيه البعض استغلال المعارضة منع مسؤولي الحزب الحاكم لتعزيز فرصهم في دعم التصويت بـ«لا» في الاستفتاء، وقال إنه لا يقبل بإلغاء ألمانيا لفعالية وزير العدل وإن كانت تلك الفعالية هي ضد الحملة التي يقودها حزبه، وهو ما دفع رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إلى تقديم الشكر للمعارضة على هذه المواقف.
محاولة الانقلاب التي جرت في الخامس عشر من تموز/ يوليو الماضي تعتبر أيضاً مثالاً تاريخياً على قدرة «القومية التركية» على حماية البلاد من الأزمات الكبرى، فعلى الرغم من تحرك قطاعات واسعة من الجيش ضد الحكومة إلا أن النداءات القومية ووقوف جميع الأحزاب إلى جانب الحكومة ضد الانقلابيين ساهم بشكل أساسي في إفشال الانقلاب خلال ساعات فقط، وهزم الدبابات والطائرات وكان الشعار الأبرز في تلك الساعات هو «الخروج من أجل حماية الدولة».
وعقب محاولة الانقلاب شاركت جميع أحزاب المعارضة إلى جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم في مهرجان جماهيري في ميداني «يني كابي» في اسطنبول شارك فيه ملايين المواطنين وطغت عليه المشاعر القومية والدعوات للتكاتف لحماية البلاد من الأزمات الكبرى. وخلال السنوات الأخيرة اضطر أردوغان إلى تعزيز خطابه القومي على حساب «الخطاب الديني» الأمر الذي أكسبه شعبية أوسع في البلاد وساعده في تجاوز العديد من الأزمات.
وباستثناء بعض الانتقادات، تؤكد جميع الأحزاب وقوفها إلى جانب الجيش التركي الذي يخوض معارك عسكرية ضد تنظيم الدولة في شمالي سوريا، ويشارك زعماء المعارضة بشكل منتظم في جنازات الجنود الذين يقتلون في سوريا، كما يدعمون بشكل مطلق العمليات العسكرية التي يخوضها الجيش بشكل مستمر ضد متمردي حزب العمال الكردستاني داخل وخارج البلاد.
ومن المظاهر الشائعة في تركيا أن ترى مواطنين كباراً وصغاراً يتوقفون فوراً حال سماعهم للسلام الوطني بجانب المدارس والمؤسسات التعليمية، فيما يوقف آخرين سياراتهم، وفي جميع المناسبات الوطنية يتم رفع العلم التركي على نوافذ البنايات والمؤسسات والشوارع وتختفي جميع رايات الأحزاب عن هذه الفعاليات.
وبينما حاول الحزب الحاكم استغلال الشعور القومي لتعزيز فرص نجاحه في الاستفتاء المقبل من خلال التأكيد على أن التعديلات الدستورية والنظام الرئاسي يحمي البلاد من التقسيم وفشله يعني احتمال تقسيم البلاد، اضطر كبار قادة الحزب إلى التراجع عن ذلك والتأكيد على أن البلاد لن تقسم تحت أية ظروف، وذلك بعد أن لم تجد هذه الحملة قبولاً في الشارع الذي يرفض مجرد التلويح بتقسيم البلاد.
كما شددت آلاف التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية على أن نجاح أو فشل الاستفتاء لا يعني دخول البلاد في أزمات كبرى، وأظهر المغردون ثقتهم بقدرة الشعب على البقاء موحداً مهما تصاعد الخلاف الحزبي والاختلاف في الأجندات السياسية.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد في الأشهر الأخيرة، استجابت شريحة واسعة من المواطنين لنداءات أردوغان ببيع الدولار وشراء الذهب لدعم العملية المحلية، كما استجابت شريحة من رجل الأعمال والشركات لإعلان «التعبئة العامة للتوظيف» الذي أعلنه أردوغان ويهدف إلى توفير 1.5 مليون فرصة عمل متنوعة خلال العام الحالي.
إسماعيل جمال
صحيفة القدس العربي