ثمة في كل أنحاء الغرب اليوم، يمين شعبوي صاعد يلقي اللوم على النخب القائمة بسبب سماحها بقدوم الكثير من المهاجرين. ويزعم الشعبويون بأن المهاجرين يخفضون الأجور ويميِّعون الثقافة، ويشكلون خطراً على الأمن القومي. ولكن، وحتى بينما تكسب العاطفة المعادية للمهاجرين المزيد من الأرضية، فإن مجموعة صغيرة -وإنما متزايدة- من أنصار الحدود المفتوحة تصل إلى الاستنتاج المناقض: أن النخب الغربية لا تسمح بدخول الكثير من المهاجرين -إنها تسمح بدخول القليل جداً منهم في الواقع. ويدعو هؤلاء المدافعون، بمن فيهم كاتب هذا المقال، إلى نظام يمنح الحرية الكاملة تقريباً للهجرة في كل أنحاء العالم، مع استثناءات نادرة من أجل منع امتداد الإرهاب أو انتشار الأمراض المعدية. وسوف تظل الحدود موجودة في مثل هذا العالم، وإنما بوصفها ولايات قضائية بدلاً من كونها حواجز أمام حركة البشر. وسوف يؤدي رفع القيود عن الهجرة بهذه الطريقة إلى زيادة الحرية، وخفض الفقر العالمي، وتسريع النمو الاقتصادي. لكن الأمر الأكثر أساسية هو أن ذلك سيتحدى حق الحكومات في تقنين الهجرة على أسس تعسفية متعلقة بالسيادة.
الحريات القديمة
ربما يبدو موقف الحدود المفتوحة جديداً ومتطرفاً، لكنه ببساطة دعوة إلى عودة الحريات المفقودة. وعندما أقيم تمثال الحرية في العام 1886، كان بالوسع عبور معظم حدود العالم بحرية من دون جوازات سفر. وقد وُجدت متطلبات جواز السفر في بعض الأحيان في السابق، وكانت ما تزال تُستخدم في روسيا القيصرية المتخلفة، لكن الحكومات الأكثر ليبرالية في الدول الغربية المتقدمة قننت الهجرة، بينما تقوم الديمقراطيات الحديثة بتقنين التعبير، فقط بشكل مخفف وفي حالات استثنائية، إذا فعلت ذلك من الأساس. وفي حقيقة الأمر، كانت القيود الشاملة على الحركة العالمية، التي يعتبرها كل شخص اليوم تقريباً حاضراً طبيعياً ومهمة حكومية ضرورية، كانت ابتكاراً للقرن العشرين، والذي ظهر بينما تخلي الليبرالية مكانها للقومية والاشتراكية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ومع أن أسباب السيطرة على الحدود كانت غالباً عنصرية بشكل صريح -مثل حصص الأصول القومية في قانون هجرة الولايات المتحدة في العام 1924- فقد جاءت القيود أيضاً بدفع مخاوف حسنة النية على الأمن القومي، وكذلك الرغبة في حماية الأجور المحلية ودول الرفاه من منافسة المهاجرين وعائلاتهم التي تعتمد عليهم في الخارج.
سوف يفضي واقع الحدود المفتوحة اليوم، أكثر مما كان في القرن التاسع عشر، إلى هجرة ملحمية للناس. وقدر معهد غالوب أن 640 مليون شخص في أنحاء العالم كافة يريدون أن يهاجروا من بلد إقامتهم الحالي. ومع ذلك، فإن العدد الحقيقي يمكن أن يكون أكثر بكثير -يتنبأ اقتصاديون، مثل جون كينان، بأنه في غياب ضوابط الحدود، فإن أسواق العمل العالمية ستميل في اتجاه التوازن، وهو ما سيعني في الممارسة هجرة عدة ملايين من الناس إلى الغرب. (على المدى القصير والمتوسط، سوف يكون العدد الحقيقي للمهاجرين أقرب إلى تقديرات غالوب، لكن الرقم يمكن أن يصل على المدى الطويل إلى مليارات، بينما يتراكم المهاجرون وذريتهم في بلدان المقصد). وسوف يؤدي التموضع الأكثر كفاءة للعمل إلى زياة عالمية في الإنتاجية، مما يفضي إلى تضاعف حجم الاقتصاد العالمي تقريباً. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يفضي هذا النشاط الاقتصادي المتزايد إلى إفادة الناس الأكثر فقراً في العالم بشكل غير متناسب.
مع ذلك، وعلى الرغم من المكاسب الممكنة، فإن رد الفعل الشائع -والطبيعي- على الهجرة المحتملة لمليارات الناس هو رفضها باعتبارها نتيجة عبثية وغير مقبولة. وقد يكون ذلك استجابة غير عقلانية، لكن ذلك لا يجعله خاطئاً بالضرورة. وفي الكتيب الذي نشره بعنوان “تأملات في الثورة في فرنسا”، لاحظ المنظر السياسي المحافظ إدموند بيرك بذكاء أن التعصب والرأي المسبق الذي يفترض أنه غير عقلاني يمكن أن يكون قوة للخير في السياسة، حيث يفضل الاسترشاد بالحكمة المتراكمة للأجيال في مقابل نوع من التفكير المجرد الذي يمكن أن يكون عرضة لسذاجة خطيرة. ومع ذلك، فإن الاحترام الكامل للتعصب اللاعقلاني يمكن أن يحول دون الإصلاح العقلاني والتقدم الأخلاقي جملة وتفصيلاً. وبأخذ هذا بعين الاعتبار، فإن هناك اثنين من الأسباب المقنعة لوجوب أن يتجاوز الناس كراهيتهم الغريزية لفتح الحدود ومنح الاقتراح تأملاً عقلانياً. أولاً، يمكن للحدود المفتوحة أن تخفف بشكل معقول، أو حتى أن تنهي الفقر في العالم، وهي نتيجة تستحق المخاطرة من أجل تحقيقها. ثانياً، يشكل تطبيق قوانين الهجرة عملاً قبيحاً؛ حيث يقوم بفصل وتشتيت العائلات ويفضي إلى وفيات يمكن تجنبها، لكنه يظل غير فعال بما يكفي لمنع الهجرة غير الموثقة واسعة النطاق. ومن الحكمة البحث عن بديل من أجل النزاهة الأخلاقية والقانونية للغرب نفسه.
مسألة أخلاقية
قضية الحدود هي مسألة أخلاقية بقدر ما هي مسألة حسابات سياسية. ويتطلب تقييم أي نتيجة اتخاذ قرار يحدد الإطار الأخلاقي الذي يمكن به تقييم ومقارنة البدائل. وهي مسألة تخص فلسفة الأخلاق. واليوم، تتميز الفلسفات الأخلاقية السائدة، مثل تلك المستمدة من جيريمي بينثام، وإمانويل كانط وجون رولز، بأنها كلها كونية ومساواتية -أي أنها تعامل كل الكائنات البشرية باعتبار أن لديها نفس القيمة الكامنة والطبيعة الأخلاقية، حتى لو أن حقوقها وواجباتها الملموسة تتفاوت بسبب الظروف. وهذه النظريات لا تلائم تلك السمات التي تميز الفكر الأخلاقي ما قبل المعاصر، مثل الولاءات الطائفية الإلزامية والتفريق بين الناس على أساس العرق والجنس والصفات الأخرى، والتي يبدو أنها ما تزال تؤثر على تفكير معظم منتقدي الهجرة. ولذلك تميل هذه النظريات إلى تفضيل الحدود المفتوحة.
هذا هو واقع الحال بغض النظر عن أي نظرية مخصوصة هي التي يتم اختيارها. وتحاول النفعية، على سبيل المثال، تعظيم السعادة الكلية، أو “المنفعة” التي يختبرها الأفراد الذين يتم إسناد نفس القيمة إليهم جميعاً. وفي مسألة الحدود المفتوحة، سوف يجادل النفعي بأنه حتى لو أن بعض الغربيين ربما يعانون، فإن المنفعة المستخلصة من مليارات المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء الأفريقية، وجنوب آسيا والأماكن الفقيرة الأخرى، سوف ترجح بسهولة على قلق الغربيين. وثمة نظرية أخلاقية شائعة أخرى، وضعها جون راولز في كتابه الصادر في العام 1971 “نظرية في العدالة”، والتي تتساءل عن ماهية نوع النظام الاجتماعي الذي يمكن أن يصممه الناس إذا تم وضعهم خلف “حجاب الجهل” أي إذا لم يكونوا يعرفون ما الذي يمكن أن يكونه مكانهم في النظام الاجتماعي. ويجادل أنصار الحدود المفتوحة بأنه ليس هناك أحد، من خلف حجاب الجهل، سوف يصمم عالماً يكون لديه فيه فرصة 80 في المائة لأن يكون مولوداً في بلد فقير وعالقاً هناك، وبحيث إذا تبين أنه جزء من نسبة 20 في المائة المحظوظة المولودة في الدول الغنية، فإنه سوف يتجنب أن يكون لديه البعض من الجيران الغرباء.
يميل منتقدو الهجرة إلى تقديم أطروحات مضادة من داخل هذه الأطر الكونية الشمولية، لكنهم يرفضون هذه الأطر جملة وتفصيلاً، فيجادلون، مثلاً، بأن البلدان ينبغي أن تعطي امتيازاً لمواطنيها على الغرباء. وفي كتابه الذي صدر في العام 2013 “الخروج”، يرفض بول كولير، الاقتصادي البارز في التنمية وأحد منتقدي الهجرة، يرفض الأخلاق الكونية باعتبار أنها “من نوع أحلام المراهقين” قبل اقتراح أن لدى الدول شيئاً يدعى “قيمة الوجود”، بحيث أنه لا يجب السماح لمواطني مالي بتحطيم مالي من خلال حركة خروج عالمية. ومع ذلك، فإن أقوى أطروحة لصالح فرض القيود على الهجرة تبقى صالحة، حتى لو تم القبول بالكونية النفعية. لأنه إذا كانت الحدود المفتوحة ستدمر بطريقة ما ذلك الشيء الخاص الذي يجعل الدول الغنية غنية، فإنه يمكن اختزال الفائدة التي يجنيها المهاجرون فقط، وإنما لن يطغى عليها فقدان السلع العامة العالمية، مثل الابتكار التقني والقانون الدولي، والتي تقوم الدول المتقدمة بتوفيرها إلى حد كبير. بمعنى أن الهجرة الجماعية يمكن أن تجعل الجنس البشري ككل في وضع أكثر سوءاً.
ناثان سميث
صحيفة الغد