إنّ الذي يندهش لِحِدّة لغة أردوغان تجاه ألمانيا، وبعض دول الاتحاد الأوروبي التي انتهجت أسلوب التصعيد في عرقلة أنشطة المسؤولين الأتراك أو منعها لترويج التعديل الدستوري، كهولندا والنمسا مثلاً، عليه أن يرجع إلى مواقفها المخجلة من محاولة الانقلاب التركي في ساعاته الأولى، ويبحث في أسبابِ تقاعسها وتلكؤهِا في التنديد به، قبل أن يبوءَ بالفشل، وأن يُراجع السرديات التي تروّج في هذه الدول عن تركيا، وشخص أردوغان خصوصا الذي يذكرونه بسوء في كلّ وقت وحين، ويصفونه بالدكتاتور والسلطان المهووس بالقوة الذي يريد إرجاع أمجاد الإمبراطورية العثمانية. وقد بلغ هذا الأمر في ألمانيا ذروته في أواخر مارس/ آذار 2016 حين هجا الإعلامي الساخر، يانْ بوميرمانْ، الرئيس التركي في قصيدة بذيئة رماه فيها بأقذع الكلام.
ستصب ما يشبه الحملة المنظمة سياسياً وإعلامياً ضد الحكومة التركية بعد فشل محاولة
الانقلاب، وخصوصا ضد الرئيس أردوغان، بلا ريب، في نهاية المطاف، في صالحه، وستجعل تركيا تبدو لدى خصومه قبل مناصريه، في موقف الضحية التي تتعرّض لمؤامرة دولية، سعت، العام الماضي، لإطاحة حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي استطاع، خلال عقد، أن يرفع بلده مكاناً عليًّا بين الدول، وأن يحقّق نجاحاتٍ على كلّ الأصعدة لا تخطئها العين، فانتشل تركيا من الحضيض، ثم أدخلها مجموعة العشرين، ليُحَوّلها، أخيراً، إلى قوة إقليمية ذات شأن يُضرب لها حساب، وجعل منها نِدّا، بعد أن كانت تابعاً، حتى باتت اليوم تشكّل غصّة في حلق دولٍ كثيرة، ضاقت ذرعاً بسرعة تنامي قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي، فأصبحت تتربّص بها الدوائر.
إذا كان هدف ألمانيا من انتقادها تركيا هو الدفاع، بالدرجة الأولى، عن قيم الحرية والديمقراطية ومبادئ دولة القانون، كما تدّعي، فلا أحد يستطيع أن يفسّر سر البون الشاسع بين الأسلوب السَّمج في تعاملها مع حكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً في تركيا والأسلوب السَّمح في تعاملها مع مصر التي صُنفت ثالث أكبر بلد يسجن فيه صحفيون خلال 2016، ونظامِها العسكري المستبد الذي بطش بإرادة شعبه، ولم يسبق أن مرّ على سمعه شيء اسمه دولة القانون، ولا يتوانى لحظة في دك حقوق الإنسان دكاً بأحذيته العسكرية.
على ألمانيا أن تأخذ بالاعتبار الظروف الحرجة التي تمرّ بها تركيا، ويجب أن تعلم أنّ من يرفض حملات المسؤولين الأتراك للتواصل مع مواطنيهم، ودعايتهم الانتخابية للتعديل الدستوري لا بدّ أن يرفض أيضاً حملات المعارضين لهذا التعديل، وإلا فسيبدو الأمر نفاقاً وتناقضاً وازدواجية في المعايير، ويجعل ألمانيا طرفاً في صراع سياسي داخلي لدولة أجنبية ذات سيادة. إنّ الذي سيقرّر مصير تركيا، في آخر المطاف، هو الشعب التركي وحده الذي لا يحتاج وصايةً من أحد. ولن تكون ألمانيا أحرص منه على مصلحة وطنه. الشيء الوحيد الذي يحتاجه الشعب التركي من الخارج هو أن يحترم إرادته.
في الوقت نفسه، يجب أن تتسع صدور المسؤولين الأتراك للنقد والرأي الآخر، وألا يحسبوا كلّ
صيحة عليهم، فليس كلّ اختلاف في وجهات النظر يجب أن يُحمل مباشرة محمل الحقد على الإسلام، أو يُعتبر بالضرورة إجراءً معادياً لتركيا وحكومتها. كما أنّ وصف ألمانيا بالفاشية والنازية تصعيدٌ مبالغ فيه، لا طائل من ورائه، فلو كان الشعب الألماني معادياً للإسلام، وكانت حكومته نازية، كما ادّعى أردوغان، لما فتحت ألمانيا أبواب حدودها لدخول مليون لاجئ سوري، في وقتٍ أحكمت فيه دول أخرى إغلاق حدودها في وجوههم.
ستعود المياه إلى مجاريها في أزمة العلاقات الألمانية التركية بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية الألمانية في 24 من سبتمبر/ أيلول، ولو على مضض، ليس نتيجة لبراغماتية السياسة الخارجية الألمانية فحسب، بل لأنّ تركيا أيضاً، في هذه المرحلة التي تمرّ بها، ونظراً لكثرة المخاطر التي تحدّق بها من كلّ جانب، وتوشك أن تهدّد استقرارها، في أمس الحاجة إلى تهدئة الوضع الراهن الذي لن يسمح لها بمزيد من التصعيد. وحجم المصالح المشتركة والمعقدة للدولتين أكبر بكثير من أن يخطر ببال أحد الطرفين مجرّد التفكير في المجازفة بها، حتى ولو ذهبت المبادئ، والقيم إلى الجحيم. وكلاهما سَتَنُوء بحمل تبعات أيّ ضرر يلحق بهذه المصالح، إنّ استمرّ التوتر في علاقتهما طويلاً. أما أردوغان، فلن ترضى عنه ألمانيا، ولا باقي دول الاتحاد الأوروبي، حتى يتبع “ملّتهم”، وسيظلّ رقماً صعباً في الحسابات السياسية المقبلة، خصوصا إذا صوّت الشعب التركي يوم 16 أبريل/ نيسان لصالح التعديلات الدستورية، ومنح الرئيس مزيداً من السلطة والصلاحيات.