تبقى أسرار احتلال العراق في أبريل 2003 كثيرة رغم ما انكشف حتى الآن من معطيات ومعلومات تثبت أن الحرب على العراق كانت أكبر ممّا روج لها، ومهمتها أعمق من إسقاط نظام صدام حسين وتخليص العالم من مصدر تهديد نووي. الحرب على العراق كانت بداية النهاية لخارطة نظام عالمي ساد منذ الحرب العالمية الأولى، وبداية الطريق نحو شرق أوسط جديد. ورغم ما انكشف ما يزال الكثير من أسرار الغزو الأميركي للعراق طي الكتمان.
وفي كتابه “في مرمى النيران” يكشف نبيل نجم، الذي شغل منصب سفير العراق في الجامعة العربية، مجموعة من الأسرار الجديدة المتعلقة بالحرب من زاوية مختلفة، باعتباره كان متواجدا في مركز القرار السياسي العراقي إبان الغزو الأميركي.
ولا تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه تعرض لخفايا احتلال العراق وتداعياته على المنطقة ككل، ولكن لكونه كان متخما بوثائق الخارجية العراقية المتعلقة بالحرب والرسائل الخطية التي كتبها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إلى الرئيس المصري محمد حسني مبارك، والصور الكثيرة النادرة التي نشرت في هذا الكتاب الذي صدر في القاهرة في (676) صفحة.
بغداد احتلت نتيجة عدم الإدراك الكامل لطبيعة المعركة. وكان هناك تصور خاطئ، مبني على أسس سليمة، يعتقد أن الموقف سيحسم لصالح العراق في النهاية
وينفي الدبلوماسي العراقي نبيل نجم بشدة أن يكون العراق قد طرد لجان التفتيش أو أبعدها، ويقول إن لجان التفتيش “أونسكوم” غادرت في ديسمبر من العام 1998 بقرار من ريتشارد باتلر تمهيدا للعدوان على العراق، الذي وقع بعد مغادرتها الأراضي العراقية بساعات، وتاليا فإن العراق لم يبعد أو يطرد المفتشين، كما يتردد خطأ أو عمدا، وإنما كان خروجهم وفق اتفاق أميركي مع باتلر لضمان سلامتهم.
محاولات لإقناع صدام بالتنحي
أيام الغزو العصيبة وما سبقها يروي الكتاب تفاصيلها وخفاياها، والتي عاشها لحظة بلحظة، الدبلوماسي نبيل نجم، الذي عمل سفيرا للعراق في عدد من دول العالم آخرها وأهمها القاهرة، وعاد بعد العام 1992 مندوبا لبلاده في الجامعة العربية، ليعمل بعدها وكيلا لوزارة الخارجية ومستشارا في رئاسة الجمهورية بمكتب نائب الرئيس طه ياسين رمضان.
يتطرق الكتاب إلى المحاولات العديدة التي جرت قبل الحرب لإقناع القيادة العراقية بصيغة ما للتنحي. ويقول إن أبرز من سعى إلى ذلك الروس، إذ زار رئيس الحكومة الروسية الأسبق الراحل يفغيني بريماكوف يوم 24 فبراير 2003 بغداد والتقى صدام حسين، الذي رفض الفكرة بشدة. وقال له “إنك تكرر ما اقترحته قبل 12 سنة وإني سمعت منك ذلك في العام 1991 وأنت تعود الآن لتكرر ذلك”. ويتابع أن المحاولة الثانية بذلها الأتراك، إذ تحرك رئيس الوزراء التركي آنذاك عبدالله غول مع الدول المجاورة للعراق. وعقد اجتماعا في إسطنبول بشأن العراق وما يمكن فعله من مبادرات ومنها السعي لإقناع صدام حسين بالتخلي عن السلطة والسفر إلى خارج العراق.
وفي فبراير أبلغ هذا المقترح لطه ياسين رمضان في زيارته السرية الخاطفة والسريعة إلى تركيا، والتي لم تستغرق سوى بضع ساعات، وعاد رمضان فورا عبر سوريا ولم يمض الليلة في أنقرة. وكان قد سبق المقترح التركي تصريح لوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في 19 يناير 2003، إذ قال إن الولايات المتحدة على استعداد لمنح صدام حسين حصانة من أي مساءلة إذا قرر الخروج مع أسرته ومن يريد من أعوانه وأسرهم إلى خارج العراق، والولايات المتحدة على استعداد لأن توفر لهم ملجأ كريما وحياة سخية.
هولاكو الجديد
تتسارع الساعات ويحبس العالم أنفاسه ويرفض العراق الإنذار الذي وجهه الرئيس الأميركي بوش إلى الرئيس صدام حسين، في بيان صدر بعد اجتماع مشترك للقيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة يوم 18 مارس 2003. وهكذا بدا واضحا أن المقبل هو التعرض الواسع على العراق وصولا إلى احتلاله وإسقاط النظام القائم.
وينوّه الكتاب إلى “أن القيادة العراقية كانت، حتى ذلك الوقت، ترى أن العدوانيين لن يتمكنوا من احتلال بغداد، وأن هولاكو الجديد سيتحطم على أسوارها، وكان هدفها سحب القوات الأميركية إلى حرب مدن وهو ما تجنّبه الأميركان، إلا في حالة الناصرية للضرورة. ولم يتحقق حصار بغداد وتم احتلالها نتيجة عوامل عدة أبرزها عدم التكافؤ في القدرات بين ما تملكه أميركا من قدرات تدميرية حديثة وما لدى المقاتل العراقي من سلاح محدود الكفاءة، بالإضافة إلى الشعور بالإحباط لدى المقاتل العراقي، بعد توالي انكسار القوات العراقية في الطريق إلى بغداد وبروز الفقاعات وحالات التمرد في بعض المدن على السلطة العراقية وشعورها بالراحة لتخلصها من قبضة الحكومة المركزية”.
في الساعة الخامسة والنصف من فجر يوم 20 مارس 2003 أغارت طائرتان أميركيتان وقصفتا مزرعة بمنطقة الدورة في بغداد. كانت معلومات قد وصلت إلى الأميركان تفيد بأن الرئيس صدام حسين مع قياديين من أركان حكمه موجودون فيها، أعقب ذلك قصف الموقع نفسه بأربعين صاروخا من نوع “توما هوك”.
مثلت هذه العملية الخطوة الأولى باتجاه احتلال العراق. وفي اليوم التالي، وبعد أن اكتشف الأميركان أن ما أقدموا عليه في اليوم السابق لم يحقق هدفهم في القضاء على الرئيس صدام، قصفوا بغداد ومناطق أخرى من العراق بـ1300 صاروخ في إطار ما سمّي “الصدمة والرعب”. واستمر القصف اليومي على العراق عموما وبغداد على وجه الخصوص، ليل نهار، بالإضافة إلى الغزو البري الأميركي البريطاني. وكان أزيز الطائرات وأصوات قنابلها والصواريخ بعيدة المدى تتساقط على أكثر من مكان من بغداد والمحافظات الأخرى لا تفرّق بين موقع مدني وآخر عسكري، كما يقول نجم في كتابه.
ويكشف الكتاب عن أساليب الحرب النفسية، التي مارستها القوات الأميركية بعد يوم 20 مارس 2003 ويقول مؤلفه “بدأ الهجوم البري سريعا إذ دخلت القوات الأميركية الأراضي العراقية من الكويت وأوجدت هي والقوات البريطانية موطئ قدم في ميناء أم قصر مكنها من إدخال المزيد من قواتها عن طريق البحر بعد قتال عنيف وشرس. وسعت القوات الأميركية في أول دخول لها إلى السيطرة على حقول النفط. وواجهت القوات البريطانية أثناء تقدمها إلى البصرة مقاومة شديدة، خصوصا في مدينة الزبير وأطراف البصرة.
وتعرضت القوات الأميركية في طريقها إلى بغداد لهجمات مقاومين خرجوا من المدن لمواجهتها بأسلحة خفيفة مما أوقف تقدمها، الذي استأنفته بعد حين، لتتحرك، مارة ببحيرة الرزازة قرب كربلاء ولتعبر ممرا على الفرات لم تكن فيه دفاعات عراقية. واستمر تقدمها بعد أن أفشلت محاولة عراقية لتدمير جسر على نهر الفرات كان بالفعل ملغما إلا أن الجهد الهندسي الأميركي قطع أسلاك التفجير مما سهل عليهم، وبعد مقاومة شديدة، عبور الجسر إلى شرق الفرات.
وهكذا تمكنت الدبابات الأميركية من العبور والتقدم نحو بغداد لتقع معركة مطار بغداد بجولتين من القتال البطولي ضد الغزاة، الذين اضطروا لاستخدام الأسلحة المحرمة دوليا للسيطرة عليه وإلحاق أبلغ الأضرار بالمقاتلين العراقيين في المطار ومحيطه، بعدها توغلت القوات الأميركية في أجزاء من بغداد”.
الشعور الواهم
كانت مجريات الأمور وتطورات الحرب تسير في غير الاتجاه الذي كان قد جرى الحديث عنه والاستعدادات لمواجهة الغزاة، صحيح كان هناك انتشار واسع في بغداد لمنتسبي حزب البعث ومتاريس في كل زقاق، ولكن شعور القلق كان يتنامى لدى الجميع مع تنامي شدة العدوان وكثافة الأسلحة المستخدمة في ضرب بغداد مما خلق فعلا حالة صدمة لدى سكانها ومقاتليها في الشوارع.
الكتابيتطرقإلى المحاولات العديدة التي جرت قبل الحرب لإقناع القيادة العراقية بصيغة ما للتنحي. ويقول إن أبرز من سعى إلى ذلك الروس
على مشارف بغداد، بدأ الأميركان بإنزال مجموعات محمولة جوا. ونظرا لعدم وجود غطاء جوي كانت القطعات العسكرية العراقية الخارجة من مكامنها للقضاء على هذه الاختراقات تُدمّر من الجو. وتكرر ذلك في مناطق عديدة حول بغداد، في منطقة الإسكندرية والدورة، ثم في مطار بغداد الدولي. كانوا يسحبون القوات العراقية إلى مناطق قتل. كانت هذه الأخبار تنتقل بسرعة إلى الناس وإلى المقاتلين، وبدأ التسرب من الوحدات العسكرية، وذلك في المدة من 4 أبريل 2003 وحتى احتلال بغداد. يوم 9 أبريل 2003 كانت إرادة القتال لدى المقاتل العراقي قد ضعفت إذ وجد نفسه أمام قوة وتقنية عسكرية وأسلحة متطورة لا تتوفر لديه واحتلت بغداد.
يعترف الكاتب أن الأميركان أفشلوا ما كان القادة العراقيون قد خططوا له وهو سحب القوات الأميركية إلى بغداد بعد إتعابها بحرب مدن في الطريق (وهو ما لم يقع) إلى بغداد ومن ثم توجيه ضربات قاضية لها على أبواب بغداد وأسوارها، كما كان يردّد قبل الغزو. وكان الشعور أن حصار بغداد قد يستغرق ربما أكثر من ثلاثة أشهر وتم الإعداد لذلك من جميع الجوانب. إذ تم حفر آبار ماء وتوزيع مواد غذائية تحسبا لذلك ولضمان الصمود. ويقرّ بأن بغداد احتلت نتيجة عدم الإدراك الكامل لطبيعة المعركة والتفوق التكنولوجي والحربي الأميركي وما اتّبع من أساليب دعائية لإحباط همم المقاتلين العراقيين.
وكان هناك تصور خاطئ بأن الموقف سيحسم لصالح العراق في النهاية ولن يتمكن بوش من إسقاط النظام. هذا التصور، لم يكن مبنيّا على أسس سليمة ومعرفة بالواقع، إذ كان هناك تبسيط للأمور، صحيح أن العراقيين قاتلوا، لكن هناك فرقا كبيرا بين القدرات العراقية والقدرات الأميركية. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك حرب نفسية وتضليل إعلامي مارسته الولايات المتحدة إلى جانب الحرب النفسية التي أديرت للتأثير على نفسية الشعب والمقاتل العراقي. هذه العوامل أدت إلى هذه النتيجة، وبدأت بعض القيادات بالانكفاء إلى الداخل وترك الأمور إلى أبناء المناطق. ويصف الكاتب احتلال بغداد بأنه “كان بداية لمرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية وخطوة على طريق ما أعلنه الأميركان بشـأن مشروع إعادة ترتيب المنطقة”.
سلام الشماع
صحيفة العرب اللندنية