بعد ثلاث سنوات من انشقاق تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) عن تنظيم القاعدة في انقسام حاد وعلني للغاية، ما يزال الكثيرون يشعرون بالقلق من إمكانية أن يستطيع التنظيمان معاودة الاتحاد ذات يوم. وقد كسبت التحذيرات من مثل هذا السيناريو، والتي أطلقتها شخصيات مثل بروس هوفمان من جامعة جورجتاون، صلاحية جديدة على مدى الأشهر الأخيرة، بينما واصل “داعش” تلقي الخسائر الفادحة في ساحات المعارك في كل من العراق وسورية.
لا شك أن ضم العمودين الرئيسيين للحركة الجهادية العالمية قواهما معاً هو واقع مثير للقلق. ويمكن أن تشكل قدرات “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” المنضمة معاً خطراً كبيراً على بقية العالم، وأن تجعل من التنظيمين عدواً أكثر خطورة بكثير معاً مما يشكلانه وهما منقسمان. ولكن، وحتى مع النكسات الأخيرة التي مني بها تنظيم “داعش” في سورية العراق، فإن إقامة تحالف بينه وبين تنظيم القاعدة سوف تكون مهمة أكثر صعوبة بكثير مما قد يتوقع المرء.
تاريخ من العداء
ما تزال هناك العديد من القوى التي تستمر في دق إسفين بين المجموعتين. وربما يكون أكثرها سطحية هو الصدام بين الشخصيات، خاصة بين المراتب العليا من التنظيمين. ويبدو أن هناك قدراً كبيراً من العداء القائم بين خليفة “الدولة الإسلامية” المعلنة ذاتياً، أبو بكر البغدادي، وبين زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري. (كما يحتقر البغدادي أيضاً أبو محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، الجماعة السورية المتمردة التي كانت معروفة سابقاً باسم “جبهة النصرة”). وقد اتضحت هذه العداوات في دعاية المجموعتين: حيث تشن أدبيات “داعش” بشكل روتيني هجمات شخصية مباشرة على الظواهري والجولاني. وعلى سبيل المثال، رسمت مجلتا “داعش” الناطقتان باللغة الإنجليزية، “دابق” و”الرومية”، صورة للظواهري باعتباره رجلاً متلاعباً وغير شريف، ووصفتاه مراراً بأنه “منحرف”، واتهمتاه بالتخلي عن “التراث النقي” الذي تركه أسامة بن لادن خلفه. كما أطلق “داعش” أيضاً لقب “الصحوات المرتدة” على تنظيم القاعدة، مشبهاً إياه بما يسمى “مجالس الصحوات” العراقية. وبالنظر إلى أن “داعش” وصم جماعة طالبان أيضاً (التي كان زعيم القاعدة قد تعهد لها بالولاء) بأنهم مرتدون في عدد يوم 7 آذار (مارس) من مجلة “الرومية”، فإنه لا يبدو أن عداءه تجاه خصومه في تنظيم القاعدة قد تراجع كثيراً وسط هزائمه المريرة المتلاحقة في ساحة المعركة.
تسري هذه المشاعر المريرة من العداء في الاتجاهين. فقد أشار الظواهري إلى مقاتلي “الدولة الإسلامية” على أنهم كذابون وخوارج، والذين شوهوا عقيدة القاعدة التوجيهية. كما فند أيضاً لقب “خليفة” الذي اتخذه البغدادي لنفسه، ووصف حيازات “داعش” بأنها “خلافة تفجير وتفخيخ ونسف”. كما أن قادة آخرين من تنظيم القاعدة –بمن فيهم الجولاني وقادة تنظيمات “الشباب” الصومالي، و”القاعدة في شبه الجزيرة العربية”، و”القاعدة في المغرب الإسلامي”- سارعوا للانضمام إلى الظواهري في نقده لتنظيم “الدولة الإسلامية” أيضاً. وفي الحقيقة، أطلق المتعاطفون مع تنظيم القاعدة في سورية مؤخراً مجلة جديدة ناطقة باللغة الإنجليزية في 27 شباط (فبراير) الماضي، باسم مجلة “الحقيقة”، والتي لا تكتفي بالهجوم على تنظيم “الدولة الإسلامية” فقط، وإنما تتضمن صورة لزعيمه، أبو بكر البغدادي، وهو غارق في نار جهنم.
اختلافات غير قابلة للتوفيق
بطبيعة الحال، تذهب أزمة المجموعتين المستمرة أعمق كثيراً من مجرد الخلافات المطولة بين القادة. وعلى سبيل المثال، لا يوافق تنظيم “الدولة الإسلامية” على العديد من المبادئ الواردة في فلسفة تنظيم القاعدة كما هي مدونة في وثيقة “توجيهات عامة للعمل الجهادي” التي تتبعها المجموعة. وفي هذه الوثيقة الصادرة في أيلول (سبتمبر) 2013، ينصح الظواهري الجهاديين بتجنب استهداف الشيعة، وهو توجيه أغضب جماعة “الدولة الإسلامية” بشكل خاص. وبدلاً من ذلك، يقول الظواهري إن الجهاد يجب أن يتوجه إلى الولايات المتحدة و”التحالف الصليبي”؛ أما “الطوائف الضالة” من الإسلام، مثل الشيعية والإسماعيلية والقاديانية والصوفية، فيجب مهاجمتها في حالة الدفاع عن النفس فقط. وبالإضافة إلى ذلك، يحظر الظواهري على أتباعه مهاجمة المنازل، وأماكن العبادة، والتجمعات الدينية أو اللقاءات الاجتماعية لأعضاء الطوائف الإسلامية الأخرى. وفي المقابل، يعتقد “داعش” أن هذه “الطوائف الضالة” هي فئات ملحدة ويجب تدميرها. وينبع التفاوت في معتقدات المجموعتين إلى حد كبير من تفسيراتهما المختلفة لمبدأ التكفير في الإسلام، الذي يتعامل مع القدرة على وصم مسلمين بأنهم مرتدون -وبالتالي تقديم تبرير لاستهدافهم بالهجمات. ويعتقد “داعش” أنه يستطيع أن يعلن طوائف بكاملها كمرتدين، في حين يعتقد “القاعدة” أن عقيدة التكفير يجب أن تستخدم بقدر أكبر من الحذر وضبط النفس.
ثمة نقطة تفترق فيها المجموعتان على نحو أوسع نطاقاً، هي مسألة غير المسلمين الذين يعيشون في أراضي المسلمين. ووفقاً لتنظيم القاعدة، فإن على الجهاديين تجنب استهداف المجتمعات المسيحية والسيخية والهندوسية التي تعيش في الدول ذات الأغلبيات المسلمة، إلا إذا اعتدوا على المسلمين (وهو ما سيشكل الأرضية لرد فعل متناسب فقط). لكن ارتكاب المذابح في حق هذه المجتمعات، وشن الهجمات على بيوتهم وأماكن عبادتهم وتجمعاتهم، كانت السمات البارزة لسلوك “داعش” منذ نشأته. وقد دفع هذا الاختلاف الفلسفي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى توجيه توبيخ حاد لتنظيم “داعش” بسبب إقدامه على قصف وتفجير المساجد في اليمن، بالإضافة إلى الكثير من أنشطته في العراق وسورية.
في الوقت نفسه، اتخذ “داعش” موقفاً حاداً من دعوة تنظيم القاعدة الجهاديين في العالم إلى دعم الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة القمعية. وعندما وضع تنظيم القاعدة مبادئه التوجيهية، كان يأمل في استخدام التظاهرات الجماهيرية لتحسين صورته الدولية، ولذلك احتشد الجهاديون للمشاركة في الاحتجاجات العنيفة في مصر وتونس. ومع ذلك، اتهم “داعش” تنظيم القاعدة بتشويه طبيعة لجهاد، وتحويله من قتال إلى سعي لكسب الدعم الشعبي وتحقيق الديمقراطية -وهي خطيئة مميتة في نظر معظم الجهاديين.
ليست هذه الاختلافات في العقيدة جديدة. ومع أن “داعش” لم ينفصل رسمياً عن تنظيم القاعدة حتى شباط (فبراير)، فإن التوتر بين الفصيلين حول الاستخدام المفرط للعنف ومهاجمة الشيعة والمسيحيين كان موجودا منذ عقد تقريباً، منذ انضمت “جماعة التوحيد والجهاد” التابعة لأبو مصعب الزرقاوي إلى تنظيم القاعدة في العام 2004. وفي الحقيقة، عملت تلك الاختلافات المقيمة في الرأي على إقناع ابن لادن أخيراً بعدم قبول الزرقاوي في حظيرة تنظيم القاعدة في أفغانستان.
مشارب مختلفة
توجد مثل هذه الخلافات الدائمة والكبيرة بين التنظيمين، في جزء منها على الأقل، لأن قيادة “داعش” لا تستطيع أن تتعقب جذورها إلى نواة تنظيم القاعدة المركزية. ومع أن القادة الجهاديين في العراق، بمن فيهم الزرقاوي، أدركوا مزايا التجنيد وجمع الأموال التي يمكن كسبها عن طريق تبني ماركة تنظيم القاعدة، فإنهم لم يعتنقوا رؤيته بشكل كامل أبداً. وفي واقع الأمر، كثيراً ما تجاهل هؤلاء توجيهات تنظيم القاعدة. وقبل الانضمام إلى القاعدة، كانت مجموعة الزرقاوي قد أنشأت هويتها وفلسفتها الخاصتين، المستندتين إلى تعاليم المنظِّر الجهادي الأردني أبو محمد المقدسي (الذي كان بالمناسبة صاخباً جداً في إدانته لـ”داعش” وزعيمه). وتشكلت نظرة المجموعة العالمية أبعد بانضمام العديد من الأعضاء السابقين في الجيش العراقي البعثي إليها.
على نحو ربما لا يكون مستغرباً، كافح “داعش” من أجل توفيق عقيدته الأصلية، “التوحيد”، مع أيديولوجية تنظيم القاعدة التي اعتنقها. وفي نهاية المطاف، لم ينجح في ذلك حقاً على الإطلاق: فقد ظل تنظيم “الدولة الإسلامية” أكثر طائفية بما لا يقاس مقارنة بنواة القاعدة المركزية، وفضل الأهداف الإقليمية على الطموحات عبر-الوطنية. ومع أن “داعش” استهدف فعلاً المواطنين الأميركيين في العراق والأردن، فإنه لم يحاول أبداً شن هجمات ضد الوطن الأميركي نفسه.
أما تنظيم القاعدة، من جهة أخرى، فيستمر في خوض معركة أكثر طولاً من الناحية الزمنية، على نحو يشبه المبدأ الماوي عن “الحرب الطويلة”. وقد اعتبر قادة المجموعة أنفسهم دائماً طليعة تركز على مهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها بغية إضعافهم وإضعاف جماهيرهم، وبالتالي تحريضهم على الثورة ضد حكامهم. ومع ذلك، يبدو أن “داعش” أكثر طموحاً بكثير. فهو يركز على النضال المحلي ويهدف إلى اتباع مثال النبي محمد عن طريق إقامة خلافة على الفور، والتي تعمل كقاعدة للغزو العالمي. ومع أن كلتا المجموعتين تعتقدان أنهما تنخرطان في معركة كونية من أجل استبدال مجتمع فاسد بواحد طوباوي، فإن أيديولوجية “داعش” تظل أكثر رؤيوية في طبيعتها. وتعتقد المجموعة أن أعمالها في العراق وسورية سوف تجر جيوش العالم إليهما، فقط ليتم تدمير هذه الجيوش هناك، مما يمهد الطريق لنشوء خلافة ستمتد إلى نهايات الأرض.
الانقسامات تذهب عميقاً
كانت ستتوفر لتنظيمي القاعدة و”داعش” فرصة أفضل للتخلص من خلافاتهما لو أن الخلافات الشخصية هي الأشياء الوحيدة التي تفصل بينهما. لكن التغاضي عن التناقضات الأيديولوجية العميقة بينهما ليس سهلاً بالمقدار نفسه، خاصة عندما تكون المجموعتان قد قطعتا أشواطاً بعيداً في تعميق هذه التناقضات. وسوف يكون أمر تفسير الاتحاد مع خصوم سابقين كانوا يعتبرون مرتدين ومن الخوارج بالتأكيد مهمة محرجة وصعبة على قيادات الجانبين. فبعد كل شيء، يرغب أعضاء كلتا المجموعتين في الموت من أجل قضية قرروا أنها تشكل التفسير “الصحيح” للإسلام، والتي لن يتخلوا عنها بسهولة. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن البعض يزعمون بأن قادة الجهاديين يستخدمون الدين كوسيلة لاستغلال أتباعهم، فإن أعمال هؤلاء الأشخاص عادة ما تكون متطابقة مع وجهات نظرهم المتطرفة، على نحو يوحي بأنهم ينطوون على اعتقاد صادق ومخلص في نفوسهم. ولكي تصبح الأمور أكثر تعقيداً، ليست لدى تنظيم “داعش” طريقة واضحة لإخضاع نفسه لتنظيم القاعدة إذا ما أراد أن يفعل، بما أنه أعلن أبو بكر البغدادي مسبقاً قائداً للمسلمين كافة. ولأن مفهوم الشرف مهم بين الجهاديين، فإن الإهانات التي تلقوها من خصومهم لن تُنسى في وقت قريب.
لكن هذا لا يعني القول إن تنظيمي القاعدة و”الدولة الإسلامية” لن يجدا طرقاً للعمل معاً على المستوى المحلي، خاصة في المناطق التي لم تشهد اشتباكات وهجمات شناها على بعضهما بعضا. وفي الحقيقة، ظهر مثل هذا النوع من التعاون مسبقاً في بعض مناطق سورية، حيث يعمل المقاتلون من هيئة تحرير الشام و”داعش” بعيداً عن المناطق المركزية للمجموعتين. لكن مجرد التعاون يختلف اختلافاً تاماً عن إعادة التوحيد.
بالطريقة نفسها، ربما يعمد أفراد أو وحدات في كل من المجموعتين إلى الانشقاق والذهاب إلى الطرف الآخر، خاصة إذا ضعفت إحدى المنظمتين إلى حد يستعصي على الشفاء. وهناك تاريخ طويل من الانشقاقات في كل من سورية والعراق، حيث عُرف عن المقاتلين هناك انضمامهم إلى الجماعات المنافسة بأعداد كبيرة. ولكن، مرة أخرى، ليست الانشقاقات الشيء نفسه مثل دمج أيديولوجيتين منفصلتين تماماً.
حتى يصبح تحقيق مصالحة رسمية حتى أكثر إمكانية -ولو بقدر ضئيل- سيكون على تنظيمي القاعدة و”داعش” أن يبدآ عملية لإصلاح العلاقات عن طريق إجراء تغيير ملحوظ في كيفية رؤية كل منهما للآخر. وحتى يحدث ذلك، فإن فرصهما لوضع خلافاتهما جانباً تبقى ضئيلة في واقع الأمر.
سكوت ستيوارت
صحيفة الغد