كانت «عاصفة الحزم» خياراً اضطرارياً داهماً ولا مفرّ منه، وكان بينها وبين السيطرة الإيرانية الكاملة على اليمن بضع ساعات، أو بضعة أيام كحدٍّ أقصى. هذه حقيقة ينبغي ألّا تُنسى، ولو تأخّرت «العاصفة» لكانت تأكّدت نتيجتان: الأولى إقصاء الحكومة الشرعية وتكريس انقلاب أتباع إيران من حوثيين و «صالحيين» كأمر واقع وتمكينهم من بسط هيمنتهم وسلطتهم على كامل الأراضي اليمنية، والثانية تهديد مباشر للسعودية عبر منظومة إيرانية عدوانية يتموضع فيها «الحرس الثوري» والميليشيات المتعددة الجنسية لإقامة جبهة مفتوحة على حدود المملكة أكثر خطراً مما هو حاصل الآن… ولأن هذا المشروع أجهض في اللحظة الحاسمة فقد تراجعت إيران سريعاً عن الادّعاء بأن صنعاء هي العاصمة الرابعة لـ «إمبراطوريتها» وراحت تحاجج بأن الحديث عن دورها وتدخّلها «مبالغ فيه»، متذرّعة بأن لا وجود لها على الأرض، كما هو الأمر في العراق وسورية، وبأن الأزمة داخلية في أساسها ولا مجال لمعالجتها إلا بوقف الحرب على اليمن.
ثمة تحليلات وسيناريوات كثيرة، داخلية وخارجية، دفعت ولا تزال بأنه كان من الأفضل ترك المسألة لليمنيين كي يعالجوها بوسائلهم وخصوصياتهم، وأن البيئة السياسية – القبلية كانت كفيلة مع الوقت بوضع حدّ لجموح الحوثيين وإنهاء استحواذ علي عبدالله صالح وأبنائه وأنسبائه على وحدات النخبة في القوات المسلّحة. وينطلق هذا التحليل من موقفَين مبدئيَين ومشروعَين: أن الأزمة داخلية بحتة، وأن التدخّل الخارجي مرفوض. لكن أزمة 2011 لم تنتهِ إلا بتدخّل خارجي تمثّل بالمبادرة الخليجية التي كانت أيضاً دولية وما لبث مجلس الأمن أن تبنّاها. وقد عيّنت الأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً باليمن للإشراف على الحوار الوطني، وعلى تنفيذ نتائجه وتوصياته لاحقاً للخروج من المرحلة الانتقالية. لم يكن المتدخّلون هنا يخططون للسيطرة على السلة أو على البلد، وكان يمكن هذا النوع من التدخّل أن يضع اليمن على طريق إصلاح سياسي للدولة متوافقٍ عليه، وأن يبقيه في حال تصالح مع محيطه العربي وفي منأى من الصراعات الإقليمية. وبما أن الحوار شكّل فرصة وطنية نادرة أكّد اليمنيون فيها انضباطهم والتزامهم البحث عن توافقات تسري على الجميع، فإن الانقلاب الحوثي – «الصالحي» (الطرفان شاركا في الحوار) جاء بمثابة طعنة في ظهر اليمنيين كافة، وضربة لشرعية الحكم مفهوماً وممارسة، وخذلاناً للدول التي رعت الانتقال السلس للسلطة.
الأهم أنه لم يكن في انقلابهم أي منحى تصالحي داخلي، بل كان واضحاً أنه «مباعٌ» سلفاً إلى إيران بغية اللعب على الصراعات الإقليمية، أي أنه يريد تأسيس نظام جديد بتركيبة انتهازية يعتقد كل طرف فيها أنه يوظّف الآخر ويستخدمه، بالتالي فهي تنطوي على تناقضات عضوية لا بدّ أن تتفجّر في أي وقت، عدا أنها طرحت للمرّة الأولى البعد المذهبي للحكم، فضلاً عن أنها لم تتأخّر في إظهار إقصائيتها مكوّنات أخرى مهمة. وأيّاً تكن المواقف من الأشخاص الذين يمثّلون الشرعية، رئاسةً وحكومة وجيشاً ومؤسسات، فإن العمل على إسقاطها، وهي التي لم تعتدِ على الناس ولم تبادر إلى إهانتهم والتنكيل بهم والاستخفاف بعقولهم، يبقى خطراً تاريخياً فادحاً في حق اليمن واليمنيين. فالنموذج الذي سعى إليه الحوار الوطني هو الذي يمكّن المواطنين من منح مَن يحترم الشعب والدولة الشرعية. أما النموذج الحوثي – «الصالحي» فيقترح مزيجاً من نهج التسلّط كما اتّبعه الرئيس المخلوع والنهج الميليشيوي الذي دأب فيه الحوثيون حتى قبل الانقلاب ولا يستطيعون إدامته إلا بتهميش الدولة والجيش، إضافة إلى تسليم البلد إلى إيران لتتخذه ورقة في مساوماتها الإقليمية والدولية.
بطبيعة الحال لم تكن الحرب خياراً محبّذاً لدى السعودية أو أيٍّ من دول التحالف التي شاركت في «عاصفة الحزم»، لكن المبرّرات فرضت نفسها بقوّة على رغم الإدراك المسبق للصعوبات والتعقيدات والأكلاف، ثم إن هذا الدور كان يجب أن يكون للمجتمع الدولي تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة. لكن المجتمع الدولي تخاذل بداعي الانقسامات في مجلس الأمن. صحيح أن إدارة باراك أوباما سجّلت موقفاً علنياً داعماً للسعودية في مواجهتها التهديدات، إلا أنها واصلت نهجها المجامل للحوثيين قبل الانقلاب وبعده والمبالغ في تغاضيه عن التدخّلات الإيرانية في اليمن وغيره. ولم تكن الحرب حققت شيئاً على الأرض عندما بدأت إيران تضغط على الموقف الأميركي كي يتبنّى مبدأ «وقف الحرب»، الذي كان يوازي في ذلك الوقت القبول الفعلي بالسيطرة الحوثية ونتائج الانقلاب. وبعدما بدأت المعادلة الميدانية تتغيّر باتجاه التكافؤ مطلع 2016، وأمكن ترتيب وقف النار وظروف صالحة ولو جزئياً للشروع بمفاوضات جدّية، جاء الحوثيون و «الصالحيون» إلى الكويت بأجندة ترمي إلى تجاوز المرجعيات (المبادرة الخليجية والقرارات الدولية وتوافقات الحوار الوطني) فضلاً عن رفض الشرعية لأن الاعتراف بها ينسف أي «شرعية» يدّعونها لانقلابهم ولحال السيطرة الاحتلالية التي اعتقدوا أن تفرض أمراً واقعاً لا يمكن أي تسوية سياسية أن تغيّره.
واقعياً، كانت هذه الأجندة إيرانية تدعو إلى وقف الحرب أولاً وترك الحل السياسي لليمنيين كي يتفاهموا عليه «من دون تدخّلات»، وترمي إلى قلب الأولويات والتعجيز في حال عدم التوافق على وقف الحرب. لكن الحرب لم تبدأ بـ «عاصفة الحزم»، بل بالانقلاب ذاته تحت غطاء «اتفاقي السلم والشراكة»، الذي لم يكد يوقّع – تحت الضغط والتهديد – حتى كان الحوثيون أنهوا السيطرة على صنعاء وبدأوا الزحف إلى بقية المناطق، وكان بين أوائل إنجازاتهم إطلاق الإيرانيين المعتقلين بعد ضبط سفينة تهريب أسلحة (آذار – مارس 2013). أمّا أولويات التسوية فوضعها القرار 2216 على أساس إلغاء نتائج الانقلاب في إطار احترام الشرعية والدولة والجيش. كانت مفاوضات الكويت الفرصة الأخيرة للانقلابيين كي يُظهروا استعداداً لهذا التنازل الحتمي وليؤهّلوا أنفسهم كجزء من الحكم. لكنهم أرادوا حصة في الحكومة تفوق ما يستحقّونه، من دون أن يتعهّدوا تسليم العاصمة، أما تسليم الأسلحة فلم يكن ولن يكون وارداً لديهم، كونه يعادل الاستسلام في نظرهم.
غير أن مفاوضات الكويت لم تقتصر على مناورات إيرانية لم تمرّ، بل اتسمت خصوصاً بإبداء الأطراف الدولية مزيداً من الاستعداد للخداع والتخاذل حتى لو تطلّب الأمر مكافأة الانقلابيين سعياً إلى صفقات مع إيران الخارجة لتوّها من العقوبات الدولية. فعلى هامش المفاوضات، أو «المشاورات» وفق ما أصر الحوثيون على تسميتها، دفع الجانب الأميركي باتجاه الضغط على الحكومة الشرعية، واستمرّ في ذلك من خلال اللقاءات الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات) ثم في المسعى الأخير للوزير جون كيري قبيل مغادرته منصبه، بغية تجريد الرئيس الشرعي من صلاحياته بعد إقالة نائبه. ولم يكن هذا العبث بتركيبة الحكومة الشرعية سوى استجابة لرغبة الانقلابيين من دون الحصول على تنازل جوهري من جانبهم لمصلحة الحل السياسي.
بعد عامين على «عاصفة الحزم»، وعلى رغم الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يتحمّل مسؤوليتها الانقلابيون في شكل رئيسي، ثمة متغيّرات أساسية. أولها أن المعادلة الميدانية لم تعد لمصلحة الحوثيين وحلفائهم، وأن جيش الحكومة الشرعية الذي بدأ من الصفر استطاع أن يقلّص سيطرة الانقلابيين إلى 15 – 20 في المئة من الأراضي كما قلّص إمكان استعادتهم زمام المبادرة. وثانيها أن في البيت الأبيض إدارة غير مهتمّة باسترضاء طهران، وحتى لو لم يتضح الموقف الأميركي الجديد بعد، إلا أنه لن يكون معنياً بتمكين إيران من باب المندب أو من الهيمنة على اليمن. وفي مختلف سيناريوات المساومة، أصبح اليمن ورقة محترقة في يد طهران، ومهما حاولت دفع الحوثيين، خصوصاً قوات صالح (وهي بالمناسبة القوات التي أشرف الأميركيون على تدريبها) لتكثّف اعتداءاتها على الأراضي السعودية، فإن مشروعها اليمني فشل وإن صوّرته على أنه لا يزال قائماً وقادراً على تحقيق انتصارات.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الحياة اللندنية