كانت مشاهد الابتهاج حاضرة في استقبال القوات التي يقودها الأكراد، عندما تمكنت من طرد مقاتلي “داعش” من مدينة منبج في شمال شورية في آب (أغسطس) الماضي. في الشوارع، أشعلت النساء النار في الأحجبة والأردية السوداء الطويلة التي كان الجهاديون قد أجبروهن على ارتدائها منذ استولوا على المدينة في كانون الثاني (يناير) من العام 2014. وحلق الرجال لحاهم التي كانوا قد أُلزِموا بإطلاقها. والتُقطت صورة لامرأة مسنة وهي تنفث بمرح دخان سيجارة، وهو عمل كان يُعاقب بالسجن في عهد “الخلافة”. ومع ذلك، سرعان ما أخلت البهجة بالنسبة للكثيرين مكانها سريعاً لمأساة كبيرة.
يقول علي حسين العمري، وهو مقاتل سابق من المدينة: “الانفجار الأول قتل جارنا وشقيقة زوجته عندما دخلا منزلهما. وبعد ثلاثة أيام، قتل لغم آخر ابن عمي. كما بُترت ساق ابنته البالغة من العمر 11 عاماً، ودُمر بيتهم. وبعد أسبوع، انفجر لغم آخر مزروع في شجرة زيتون، وفقد جاري ساقه”.
تتقلص مساحة الأرض التي يسيطر عليها “داعش” سريعاً في كل من العراق وسورية. لكن المجموعة ما تزال قادرة على القتل والتشويه، حتى في المناطق التي لم تعد تحتلها الآن. وخلال عشرة أيام فقط منذ تحرير منبج، قتلت الألغام والمتفجرات المفخخة في شكل شراك خداعية زرعها الجهاديون المنسحبون 29 شخصاً، وفقاً للمعهد السوري للعدالة، وهو منظمة مدنية غير حكومية.
والقصة مشابهة في المدن والقرى المحررة حديثاً في جميع أنحاء العراق وسورية. فبينما ينسحبون، قام الجهاديون بتفخيخ المنازل، والمدارس والمشافي والمساجد بالشراك الخداعية. وزرعوا مساحات شاسعة من الأرض بالألغام الأرضية المصنوعة يدوياً بطريقة مرتجلة، صانعين حقول ألغام تمتد لعشرات الكيلومترات. وقد أصبحت المناطق الذي كان يحتلها “داعش” ذات مرة واحدة من أكثر المناطق المزروعة بالألغام كثافة على وجه الأرض. وسوف يكلف تطهيرها الملايين ويستمر لعقود.
في القرى التي كان يحتلها “داعش” سابقاً، يحاول المدنيون يائسين إعادة بدء حياتهم ويعودون ليجدوا منازلهم وشوارعهم وحقولهم مليئة بالقنابل والفخاخ. وقد أخفى “داعش” الأشياء المستعملة في الحياة اليومية لإطلاق متفجرات قوية بما يكفي لنسف بنايات كاملة –أرغفة الخبر، أقداح الشاي، المكانس الكهربائية والحواسيب التي تم وصلها بمتفجرات مموهة. وعثرت فرق تفكيك القنابل على دمى مزودة بأجهزة استشعار للحركة، ومصابيح تنفجر بمجرد أن يتم إشعالها، وصنابير مياه تفجر عبوات ناسفة عندما تُفتح. وثمة فخاخ أخرى أقل تعقيداً: قنابل يدوية منزوعة المسامير، موضوعة في كوب متوازن فوق باب.
من بين أكثر أجهزة التفجير صعوبة على التعقب أجهزة “السلك المسحوق” -وهي أطوال من الأسلاك النحاسية المغطاة بالتراب أو الجص، والمنثورة في الشوارع، والمموهة في كثير من الأحيان بحيث تبدو مثل الحجارة الصغيرة. كما تم تفخيخ الجثث لتنفجر أيضاً. ويقول سعيد عيدو من معهد العدالة السوري: “كيف يمكنك أن تحذر الناس من هذا؟ كيف تطلب منهم أن لا يذهبوا إلى المدارس أو المستشفيات، وأن لا يلتقطوا صخرة صغيرة أو يدوسوا على الحجارة؟ أن لا يحركوا إبريق شاي أو يجلسوا على الأرائك؟”.
تشكل البيوت المفخخة جزءاً فقط من المشكلة. فمن أجل الدفاع عن مناطقه، زرع “داعش” معظم ألغامه في أحزمة كثيفة تحيط بمئات البلدات والقرى على جانبي الحدود السورية-العراقية. وفي إحدى القرى جنوب شرق الموصل، أزالت فرق التطهير العاملة مع “المجموعة الاستشارية للألغام” وهي منظمة غير حكومية بريطانية، بإزالة أكثر من 1.000 لغم منذ تشرين الأول (أكتوبر). وما تزال القرية والأراضي المحيطة بها غير مطهرة بالكامل. ويقدر الخبراء أن “داعش” ربما زرع في كل من العراق وسورية أكثر من 100.000 لغم أرضي -في أكبر ترسانة من الألغام المرتجلة تشاهد على الإطلاق.
جلبت الحروب التي استعرت خلال الربع الأخير من القرن العشرين فورة في استخدام الألغام الأرضية. وبحلول أواسط التسعينيات، كانت هذه الأسلحة تقتل نحو 26.000 كل عام. وهبط هذا الرقم بحدة بعد أن دخلت “معاهدة أوتاوا” التي حظرت استخدام الألغام الأرضية حيز التنفيذ في العام 1999. لكن “داعش” عكَس هذا الاتجاه. وأصبحت الخسائر تتصاعد مرة أخرى، حتى مع أن تمويل تطهير الألغام أصبح في أدنى مستوى له منذ سنوات. وتقول جين كوكينغ، المديرة التنفيذية لمنظمة المجموعة الاستشارية للألغام: “إننا نشهد حالة طوارئ جديدة في موضوع الألغام الأرضية على نطاق غير مسبوق منذ الاتفاق على المعاهدة التاريخية لحظر الألغام قبل 20 عاماً”.
الآن، لم يعد الأمر يقتصر على إنتاج الألغام بكميات هائلة؛ فمعرفة كيفية صناعتها لم تعد حكراً على حفنة من صانعي القنابل المحترفين. وتشير وثائق اطلعت عليها “أبحاث تسليح الصراعات”، وهو مجموعة تتعقب الأسلحة غير القانونية، إلى أن مقاتلي “داعش” يتلقون “تعليمات متطورة ومعقدة” حول كيفية بناء القنابل. وتقول المجموعة: “وليست هذه مساقات قصيرة، وإنما دروس هيكلية -كما تدل على ذلك العديد من أوراق الامتحانات التي يقدمها طلاب داعش”.
حتى من دون هذا الجيل الجديد من صانعي القنابل، سوف يدوم إرث “داعش” القاتل لعقود، مدفوناً في الأراضي التي لم تعد المجموعة تسيطر عليها، في انتظار أن تدوسها قدم شخص غير محظوظ. وثمة أمر مقلق بالمقدار نفسه، خاصة في سورية، هو الكميات الكبيرة بشكل غير عادي من الذخائر التي أُسقِطت على المناطق الحضري، في معظمها من النظام السوري وداعميه. ويعتقد الخبراء أن تطهير سورية من القنابل والصواريخ والألغام التي لم تنفجر سوف يستغرق 30 عاماً على الأقل. وسوف تعيق بقايا المتفجرات عملية التعافي الاقتصادي، وتبطئ عودة اللاجئين، وتعرقل الجهود لبناء الدولة لمدة طويلة بعد أن يتوقف إطلاق النار.
صحيفة الغد