قرار الهجوم
اتخذت ردة الفعل الأميركية على هجوم خان شيخون الكيماوي مسارًا تصاعديًا، بعد انتشار الصور المرَوِّعةِ لضحايا المجزرة الكيماوية يوم 4 أبريل/ نيسان 2017. وكانت البداية بتصريح للناطق باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، دان فيه الهجوم ووصفه بـ “الشنيع”، وبأنه لا ينبغي للعالم المتحضر تجاهله. وفي إشارة إلى أن إدارة ترامب قد تقوم بعمل ما حيال الهجوم، انتقد سبايسر نهج الرئيس أوباما الذي وضع “خطًا أحمر” لنظام الأسد، وحذّره من استخدام الأسلحة الكيماوية، ثم تجاهله، عندما أقدم الأسد على استخدامها في الغوطة الشرقية لدمشق، وهو الهجوم الذي تسبب حينها بمقتل نحو 1300 مدني. أما ترامب، فقد تجاوزت مجزرة خان شيخون بالنسبة إليه “خطوطاً عديدة عندما يُقتل رضع وأطفال أبرياء بغاز سام”. وأكد أن موقفه “تجاه سورية والأسد قد تغير كثيرًا”. وعلى الرغم من تحميل ترامب سلفه مسؤولية “الفوضى التي ورثها”، فإنه عاد ليؤكد أنه “المسؤول” اليوم، وأنه “سيضطلع بمسؤولياته”.
وقد اجتمع ترامب بفريق مستشاريه للأمن القومي، لبحث الخيارات المتاحة للرد على الهجوم. وبحسب صحف أميركية، أراد ترامب خيارًا يظهره رئيسًا حازمًا خلافًا لأوباما (وهذه مسألة سياسية داخلية وخارجية)، ويتضمن استخدام القوة، ولكن من دون توريط الولايات المتحدة في الصراع السوري، أو حدوث مواجهة مع داعمي الأسد، وتحديدًا الروس من جهة، وكي يرسل إشارة بأن الولايات المتحدة لن تسكت بعد اليوم على استخدام الأسلحة الكيماوية، مع إشارات ضمنية إلى السكوت على غيرها، من جهة أخرى.
وفي أثناء توجه ترامب للقاء الرئيس الصيني في منتجع مارا لوغو في ولاية فلوريدا في اليوم التالي، قدّم مستشاروه العسكريون ثلاثة خيارات لمعاقبة نظام الأسد، وكلها أعدت أصلًا زمن إدارة أوباما. وقد تم حصرها في خيارين؛ يتمثّل الأول بقصف قواعد عسكرية سورية عديدة، أمّا الثاني فأساسه الاكتفاء بقصف قاعدة الشعيرات التي انطلقت منها الطائرة العسكرية التي نفذت الهجوم. واختار ترامب الخيار الأضعف، مؤكّدًا ضرورة تجنب إصابة جنود روس في الهجوم. وقد تم تبني هذا الخيار على أساس أن قصف الشعيرات سيوصل رسالةً بوجود رابط بين استخدامها قاعدة لاستخدام غاز الأعصاب في الهجوم على خان شيخون والضربة الانتقامية الأميركية؛ وهذا يعني ردًا محدودًا و”متناسبًا”.
وقبل ساعة من الهجوم، أخطرت الولايات المتحدة، عبر مكتب التنسيق العسكري مع روسيا في سورية والموجود في العاصمة الأردنية عمّان، الروس بموعد الهجوم؛ لسحب أي قواتٍ ومعدات لهم من القاعدة. وخلال مأدبة العشاء مع الرئيس الصيني، مساء الخميس، أصدر ترامب قراره ببدء القصف، وبدأت الصواريخ بالسقوط على مطار الشعيرات صباح الجمعة. وانطلق القصف من السفينتين الحربيتين الأميركيتين، بورتر وروس، المتمركزتين في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ إذ أطلقتا 59 صاروخ توماهوك، استهدفت مدرّجات المطار ومهاجع الطائرات ومحطات الوقود والتخزين اللوجستي ومستودعات الذخيرة ونظم الدفاع الجوي.
تغيير في الإستراتيجية أم غيابها؟
أثار الهجوم الصاروخي الأميركي الأول على قاعدة عسكرية للنظام السوري تساؤلًا حول إن كان الهجوم يؤذن ببداية تغيير كبير في المقاربة الأميركية للصراع في سورية، فقد تجنبت إدارة أوباما الانخراط المباشر في الصراع من جهة، وعملت على منع الأسد أو المعارضة من تحقيق انتصار عسكري حاسم من جهة أخرى. وقد أدّت هذه الإستراتيجية إلى حدوث فراغٍ في سورية ملأه تنظيم “داعش”، قبل أن تتشجع روسيا نتيجة الانكفاء الأميركي، وتتدخل مباشرة في الصراع إلى جانب الأسد، للحيلولة دون سقوط نظامه. ولم تكن مواقف ترامب مختلفة كثيرًا عن مواقف الرئيس أوباما في الموضوع السوري، بل كانت أكثر تحفظًا؛ إذ انتقد ترامب عام 2013 “الخط الأحمر” الذي وضعه أوباما للنظام السوري، بخصوص استخدام الأسلحة الكيماوية، وحَثّه على عدم استخدام القوة في الرد على الهجوم الكيماوي في غوطة دمشق في أغسطس/ آب 2013 الذي لم يكن مدعاة لتأثره الإنساني في حينه. وبعد أن أعلن ترامب ترشّحه للرئاسة، ظل ينتقد “تركيز” إدارة أوباما، ومنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، على الأسد بدل “داعش”؛ وقال إنه سيتحالف مع الروس لهزيمة “داعش”، ولن يسعى إلى إطاحة الأسد؛ لأن ذلك قد يفجر صراعًا مع روسيا.
حافظ ترامب على هذه المواقف بعد وصوله إلى الرئاسة، وقد صرّح وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، في أنقرة، قبل أيام فقط من الهجوم، إن مصير الأسد يحدّده الشعب السوري، وهي العبارة نفسها التي يكرّرها الروس والإيرانيون لضمان بقاء الأسد في الحكم. وعبّرت عن الموقف نفسه السفيرة الأميركية في مجلس الأمن، نيكي هيلي، أواخر مارس/ آذار 2017، عندما قالت إن إزاحة الأسد من السلطة “لم تعد أولوية” للولايات المتحدة. كما أن الناطق باسم البيت الأبيض، وصف، في مؤتمر صحافي في اليوم نفسه الذي وقع فيه هجوم خان شيخون، نظام الأسد بأنه قبول بـ “الواقع السياسي”، وبأنه “لا يوجد خيار جذري لتغيير النظام كما كان عليه الحال في السابق”. وكان مستشار ترامب، ستيف يانون، يرى ضرورة قبول الأسد، وحتى التحالف معه في “مكافحة الإرهاب”. وإزاء هذا الكم من المواقف والتصريحات، كيف يمكن تفسير قرار الهجوم الأميركي الأول على نظام الأسد؟
أسباب الضربة
يبدو أن إدارة ترامب أرادت إيصال رسالةٍ مفادها وجود خطوط حمراء في سورية لن تقبل
بتجاوزها؛ ومنها استخدام الأسلحة الكيماوية، وبأنها على خلاف إدارة أوباما قادرة وراغبة في التحرّك، وحتى منفردة للدفاع عن خطوطها الحمراء، لكنها لا تريد التورّط في الصراع السوري، ولم تغير جذريًا مقاربتها للدور الأميركي في هذه الحرب. ويؤكد تيلرسون هذا المعطى بقوله “لا يوجد تغيير في سياستنا، أو موقفنا في سورية”، وبأن الرد الانتقامي الأميركي جاء “متناسبًا لأنه استهدف المنشأة التي انطلق منها الهجوم الكيماوي الأخير”، وليس بداية لتدخل عسكري. كما أكد أن أولوية الولايات المتحدة في سورية ستبقى محاربة داعش وهزيمته”.
يصعب التسليم بأن الصور المروّعة للمجزرة السورية هي التي دفعت ترامب إلى اتخاذ قرار الهجوم، في ضوء استمرار المذبحة السورية بالكيماوي أو بوسائل أخرى. ويمكن الوقوف على جملة من الأسباب قد تكون مجتمعة وراء توجيه الضربة، وهي:
• أولًا، تراجع شعبية ترامب إلى مستويات تاريخية؛ جرّاء فشله في ملفات داخلية، وفي مقدمتها نقض قانون الرعاية الصحية الذي أقرّه أوباما، والفوضى العارمة التي تجتاح إدارته. ومن ثمّ، كان الهجوم محاولة منه لصرف الأنظار عن هذه الملفات، وعن الجدل المتصاعد حول العلاقة بين حملته الانتخابية وروسيا؛ إذ إن تحقيقين، فيدرالي وتشريعي، يجريان للبحث عما إذا تمّ تنسيق بين الطرفين لإضعاف هيلاري كلينتون. كما أن هذه الضربة التي أغضبت الروس قد تخفف الشكوك حول ارتهان ترامب، لسبب أول لآخر، بهم.
• ثانيًا، من خلال توجيه ضربة عسكرية محدودة إلى نظام الأسد؛ تريد إدارة ترامب إيصال رسالة واضحة إلى خصوم آخرين، كإيران وكذلك كوريا الشمالية المدعومة من الصين، خصوصًا أن القصف تمّ خلال تناول ترامب طعام العشاء مع الرئيس الصيني، مع أن مستشاريه اقترحوا عليه تأجيل القصف يوماً واحداً إلّا أنه رفض، فكأن رسالة إدارة ترامب أن زمن التردّد تحت إدارة أوباما قد انتهى، وأن الولايات المتحدة مستعدة لتحمل نتائج اتخاذ قرارات باستخدام القوة.
• ثالثًا، من خلال هذه الضربة، تكون إدارة ترامب قد عادت بقوة إلى طاولة المفاوضات المتعلقة بمستقبل سورية، وذلك بعد أن حيّدت نفسها وحُيِّدت في الأشهر الأخيرة من إدارة أوباما، خصوصا أنها لم تكن طرفًا مركزيًا في محادثات أستانا التي دعت إليها كل من روسيا وتركيا. وقد أظهرت الضربة حجم روسيا الحقيقي، وأن دورها الفاعل يعود أساسًا إلى غياب الفعل الأميركي.
• رابعًا، رسم خطوط حمراء للنظام السوري لا ينبغي له تجاوزها في استخدام القوة ضد شعبه. وكأن القتل بالوسائل التقليدية الوحشية، كالبراميل المتفجرة، والتعذيب في السجون أمر يمكن تفهمه، ولكن الموقف يتغير إن كان القتل يتم باستخدام أسلحة كيماوية.
كل هذه الأسباب لا تراعي الاعتبارات الإنسانية؛ نظرًا إلى استمرار سفك دماء السوريين على أيدي نظام الأسد وروسيا وإيران وميليشياتها، بـ “طرق تقليدية”، واستمرار إدارة ترامب في فرض حظر على قدوم اللاجئين السوريين إلى الولايات المتحدة، كما أنها لا تزال تتحدّث عن إقامة “مناطق آمنة” في سورية، من دون أن يصدر عنها ما يترجم كلامها إلى واقع.
خاتمة
ما زالت إدارة ترامب لا تملك رؤية متماسكة لكيفية التعامل مع الصراع في سورية، فقد ظلت تتبع سياسات إدارة أوباما نفسها في التركيز على الحرب على “داعش”، ودعم المقاتلين الأكراد الذين يشكّلون العمود الفقري “لقوات سورية الديمقراطية”. لكنّ التطور هنا تمثّل بكسر إدارة ترامب الحاجز النفسي لناحية استعدادها لضرب النظام السوري، من دون الارتهان بهواجس الرد الذي قد يتبعه حلفاء الأسد. كما أنها باتت متورطةً في ديناميات الصراع السوري؛ إذ أكد وزير الخارجية الأميركي أن “أي خطواتٍ أميركيةٍ مستقبلية ستحدّدها طبيعة رد نظام الأسد وحلفائه”. كما يبدو أن تحولًا طرأ على الموقف الأميركي الذي جرى تأكيده قبل الهجوم الكيماوي بأنه متروكٌ للشعب السوري؛ فقد تبنت الإدارة الأميركية بعد الهجوم الكيماوي الموقف الذي يرى أن الأسد يمثّل جزءًا من المشكلة، ولا بد من إزاحته، بحسب ما جاء على لسان السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هالي. كيف يحصل هذا؟ ومتى؟ تتوقف الإجابة على المدى الذي يمكن أن يبلغه الأسد، برعونته وإجرامه بحق الشعب السوري. وهو مدىً غير محدود؛ بناء على ما دلت عليه حوادث السنوات الست الماضية.