قد يكون من السابق لأوانه الجزم بذلك، لكن دونالد ترامب يبدو أكثر شبهاً بشخص مخادع باطراد. كما يبدو أيضاً مثل شخص ضعيف العقل، غير سياسي وجاحد. كل هذا يأتي بوضوح صادم مع تسارع التطورات المتعلقة بسورية. فقد أطلقت الولايات المتحدة عشرات الصواريخ على منشآت عسكرية سورية رداً على هجمات شنت بأسلحة كيميائية على أراضٍ تخضع لسيطرة سيطرة الثوار. وهكذا يظهر ترامب، وإلى البعد الذي تختلف فيه سياسته الخارجية عن سياسة سلفه، أن سياسته هي أكثر عدوانية ومغامراتية مقارنة مع سياسة أوباما. وهذا هو نقيض ما شن حملته الانتخابية على أساسه.
إذن، دعونا نبدأ بالمبدأ السياسي الحاسم للامتنان السياسي. وهو الفضيلة التي تحفز الساسة على إيلاء اهتمام خاص للجمهور الذي حمله إلى سدة الرئاسة. وباستطاعة ذلك أن يولد الغضب والحنق لدى الجمهور على الجانب الآخر من المواضيع الرئيسية التي تتكشف، لكن على أولئك الناس أن يقبلوا بحقيقة أنهم كانوا يقفون على الجانب الخاسر. والمعروف أن الجانب الكاسب هو الذي يضع الأجندة استناداً إلى الحديث السياسي للحملة الأخيرة. هذه هي الطريقة التي تعمل وفقها السياسة.
عند التفكير بالحديث السياسي للحملة الأخيرة، فإننا نتذكر أن ترامب هاجم حرب العراق واعتبرها مغامرة خارجية بلا تفكير، والتي أسفرت عن تداعيات مريرة ومتواصلة، بما في ذلك فوضى عارمة متواصلة في الشرق الأوسط. وقال أن من المؤكد أنه لن يقدم على ارتكاب نفس الخطأ في سورية، وأن الانضمام إلى القتال ضد الرئيس السوري بشار الأسد سيضع الولايات المتحدة إلى جانب “داعش” وغيره من التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وقال أنه إذا تمت الإطاحة بالأسد، فمن المرجح أن يسقط البلد بأيدي عناصر بغيضة تكره الغرب -بعبارات أخرى، عناصر من أسوأ أعدائنا. وشدد على رغبته التي طالما أعرب عنها في تطوير علاقات أفضل مع روسيا، حليف سورية، وقال إنه سيعمل مع روسيا من أجل وضع حد لإراقة الدماء المريعة في سورية.
هناك في ذلك البلد، فسر الكثير من الأميركيين خطاب الحملة ذاك على أنه يشير إلى أن هذا رجل سياسي يعارض الحكمة التقليدية للنخب، وأنه سيقاوم الدعوات لعرض العضلات الأميركية حيثما تحيط المآسي بالعالم. ونحن نعرف أن معظم الأميركيين اتفقوا مع حكم ترامب القاسي على حرب العراق التي شنها جورج دبليو بوش، على الرغم من أن البعض ربما لم يكن مرتاحاً للتشخيص المزعوم لصاحب المليارات، الذي قال أن قادتنا القوميين كذبوا في الحقيقة على الشعب الأميركي في أخذ أميركا إلى الحرب (في تضاد مع فكرة أن البلد ارتكب خطأ مأساوياً حول إذا ما كان الزعيم العراقي صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه كان يتعامل مع تنظيمات إرهابية معادية للغرب).
وهكذا، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح: ما الذي يدين به ترامب لدائرته الانتخابية؟ الجمهور الذي أوصله إلى سدة الرئاسة؟ هل يدين لهم بالتصميم على عدم الوقوع في شرك حرب شرق أوسطية أخرى، حتى بعد هجوم الأسلحة الكيميائية الرهيب في سورية؟ هل يدين لهم بتقديم الدليل القاطع على أن الأسد كان في الحقيقة وراء شن الهجوم الكيميائي؟
وعلى نطاق أوسع، هل يدين للشعب الأميركي بتفسير ما الذي يريد إنجازه بعمله العسكري هذا، وماذا ستكون معاييره وماذا قد تكون محدودياته؟ وهل يدين للكونغرس بأي احترام، باعتباره فرع الحكومة المسؤول عن إعلان الحرب؟
سرعان ما عمد مسؤولو إدارة ترامب إلى تضخيم المسألة كحالة حرب، حتى قبل أن يكون هناك أي تحقيق جاد فيما حدث بالفعل في سورية، فافترضوا في الحال أن الأسد هو الجاني. وقال وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون أن الأسد لا يستحق “أي دور” في حكم بلده. وهكذا، تبدو أميركا على وشك الدخول في مغامرة أخرى لتغيير نظام، وهي سياسة خلقت فوضى إقليمية لا نهاية لها عندما طبقت في العراق وليبيا. ثم اقحم ترامب نفسه، فقال للمراسلين الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية أن “ما حدث في سورية هو عار على الإنسانية، وها هو هناك، وأعتقد أنه يدير الأمور، ولذلك أعتقد أن شيئاً ما يجب أن يحدث”.
يبدو أن رئيسنا الجديد يدثر نفسه بعباءة ويلسونية؛ حيث يرسل القوات الأميركية إلى بقاع قصية في الكرة الأرضية على اساس عواطف إنسانية.
من الطبيعي أن يكون “المسؤول الأميركي الرفيع” الاعتيادي، أحد الذين يجدون دائماً طريقهم إلى صحيفة نيويورك تايمز في هكذا ظروف، قد قال للصحيفة إن المخابرات الأميركية توصلت “بثقة عاية” إلى أن الأسد وقف وراء العمل العدواني البشع. لكننا شاهدنا هذا الفيلم من قبل. إن مجتمع المخابرات لا يتمتع بمستوى عالٍ من المصداقية هذه الأيام، ناهيك عن أن بعض المسؤولين الأميركيين الرفيعين يتحدثون نيابة عنه، شريطة عدم الكشف عن هوياتهم.
ثمة احتمالات أخرى للحدث في سورية، بما في ذلك ضربة وجهت إلى مرفق تخزين تابع للثوار كان يحتوي على أسلحة كيميائية، أو حتى أن يكون ذلك عملاً لتنظيم القاعدة، والذي صُمم بالتحديد لإثارة الغضب الغربي الموجه للأسد، وهو ما تجسد على أرض الواقع. وكما سأل الصحفي الاستقصائي روبرت باري: بما أن الأسد كسب اليد العليا في الحرب الأهلية، فلماذا يخاطر بإثارة رد عسكري غربي بارتكاب هذا العمل؟
ربما يفعل. ربما يكون لديه هذا المستوى من الحماقة ليواكب وحشيته. لكنه، إذا فعل، فإن من حق الشعب الأميركي أن يعرف الحقائق، بجدية ودقة، حول ما حدث بالفعل وما هي الخطة العسكرية الكاملة.
بالعودة إلى دائرة ترامب الانتخابية، فإن هذا ليس ما توقعه هؤلاء الناس نه استناداً إلى خطاب حملته وهجماته على عدوانية السياسة الخارجية لبلده في العقدين الماضيين. وهؤلاء هم الناس الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض، وهو يدين لهم بذلك على الأقل. وهو يدين لهم بقدر من الامتنان السياسي.
هنا يكمن ضعفه. وتبدو اعتقادات حملته خالية من الشجاعة اللازمة للتمسك بها. وقد تحدث في الحملة عن أمور كبيرة. وعكس صورة رجل لن تؤثر فيه الاتجاهات التقليدية للتفكير أو ازدراء النخب، وسوف يسلك طريقه الخاص لأنه هو الطريق الوحيد الذي يمكِّنه من تجفيف مستنقع واشنطن، وصياغة منطق سياسي جديد، وخلق ائتلاف حاكم جديد، وخفض مستوى المغامرة في السياسة الخارجية الأميركية.
لكن ذلك يتطلب شجاعة حقيقية. ومن الصعب من الناحية النفسية الدخول في مشروع استثماري في أرض سياسية جديدة كلية لم يذهب إليها أحد من قبل. أما الحديث عنها فسهل، لكن القيام بذلك يتطلب ثباتاً يفوق قدرة شخص ضعيف سياسياً.
إننا نقرأ الآن أن المفكرين التقليديين وقاطني مؤسسة إدارة ترامب يقومون بإقصاء جماعة الإدارة الذين كانوا معه خلال الحملة الانتخابية، عندما هاجم المفكرين التقليديين وداخليي المؤسسة الذين استولوا الآن على إدارته. وفي السياسة المحلية، ربما لا تكون المخاطر عالية جداً: فالخاسر الأكبر على الأرجح هو ترامب نفسه. لكن المخاطر في السياسة الخارجية ضخمة ومن الممكن أن يكون الخاسر هو البلد برمته.
كيف يستطيع المرء أن يفهم هذه المؤشرات على أن حكم ترامب سيكون مختلفاً بشكل كبير عما قاله خلال الحملة الانتخابية؟ من الصعب مقاومة الشك بأن البعض من ذلك يتعلق بالافتقار إلى الاقتناع. إنه يكتسبه -وما يزال كذلك منذ نزل عن مصعد برج ترامب الشهير في حزيران (يونيو) من العام 2015. ومع ذلك، فقد تحدث وكأنه رجل صاحب عقيدة مغلفة بالحديد، كشخص تمهد تلك الكلمات لأعماله. وفي السياسة، عندما لا تتطابق الكلمات مع الأفعال، فإننا نصف ذلك بأنه خداع.
يبقى أن تتكشف الدراما السورية بشكل كامل، وبذلك ربما لا يكون هذا الفصل بمثابة النافذة التي تطل على دونالد ترامب والتي تظهر في هذه التأملات. لكن المؤشرات لا تبدو مفضلة في في هذا الشأن بشكل خاص، كما هو حالها فيما يتعلق بالعديد من المسائل الأخرى.
روبرت ميري
صحيفة الغد