معمر فيصل خولي*
يهدف الجهد الدبلوماسي والعسكري لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المنصبّ على العراق، بالتوازي مع انخراطها بشكل متزايد في الحرب على داعش في منعطفها الأخير، لتوفير البيئة المناسبة لمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بشكل فاعل في ترتيب أوضاعها في مرحلة عراق ما بعد داعش وإعادة توزيع خارطة النفوذ داخله باتجاه تحجيم الدور الإيراني والحدّ من تأثيراته. يشكل العراق أهمية كبيرة في المدرك الإستراتيجي الأمريكي فهو ببساطة أعظم من أن تتم المخاطرة بفشله. فهو يحوي اليوم رابع أكبر كثافة سكانية في الشرق الأوسط. فإذا سئمتَ من معاناة 23 مليون مواطن في سورية، أو إذا كنت تقلق حيال تدفق النازحين ومن الملاذ الآمن للإرهابيين داخل البلاد، فحاول أن تتخيل كم سيكون الوضع أسوأ بكثير لو أضيف 36 مليون عراقي إلى المعادلة. وكاد هذا يحصل عندما سيطر تنظيم داعش على ثلث العراق في حزيران/يونيو عام 2014، إلّا أنّه تم تفاديه بشكلٍ أساسي بفضل الهجوم العراقي المعاكس بمساعدةٍ من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وسوف ينقسم العراق من جديد، وسوف يظهر خطرٌ آخر مماثلٌ لـداعش، ما لم تبقى الولايات المتحدة منخرطة في تلك البلاد.
ويضم العراق أيضاً خامس أكبر مخزون نفطي في العالم. فتخيل لو وقعت هذه الثروة في أيدي نظامٍ مناهض للغرب ومدعوم من إيران، التي تملك بدورها رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم. وقد عمدت الإدارة الأمريكية الجديدة إلى توجيه “إنذار” لإيران لدعمها للقوات الوكيلة لها وتوسيع نفوذها اللذين يزعزعان الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وليس هناك أي دولة في الشرق الأوسط يكون فيه هذا الصراع أكثر إلحاحاً مما هو عليه في العراق. فمنذ انسحاب الولايات المتحدة من العراق في كانون الأول/ديسمبر 2011، تفاقم النفوذ الإيراني فيه بشكلٍ ملحوظ. فالفصائل المسلحة العراقية الشيعية المدعومة من إيران تنفّذ السياسة الخارجية الخاصة بها، وتعمل كجحافل أجنبية إيرانية في سورية. وقام بعض هؤلاء الوكلاء، على غرار كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، بإعادة تسمية أنفسهم كـ «وحدات الحشد الشعبي»، وهي عبارة عن متطوعين في الحرب ضد داعش، إلا أنّ هدفهم الحقيقي هو استمرار القتال إلى ما بعد تحرير الموصل وتشكيل فرع عراقي دائم لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني.
وإذا تم إضعاف المعتدلين السياسيين في العراق مثل رئيس الوزراء حيدر العبادي من قبل هؤلاء الوكلاء الإيرانيين، فسيعود العراق وينزلق ببطء في حربٍ أهلية كتلك التي تشهدها سورية. وسوف يملأ داعش أو خلفٌ له هذا الفراغ. وسيخسر العراق جميع مكاسبه من العامين المنصرمين، وسيدفع الوكلاء الإيرانيون الولايات المتحدة الأمريكية إلى خارج العراق – وبالتالي سيتم فقدان القدرة على المنع بصورة مباشرة إعادة ظهور ملاذ آمن جديد للإرهابيين في قلب الشرق الأوسط. ومن هذه الأهمية، تتضح بشكل متزايد ملامح جهد أميركي متعدّد الأوجه؛ دبلوماسي وعسكري لاحتواء العراق. فعلى الجانب الدبلوماسي تدعم إدارة الرئيس دونالد حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لعلمها بحاجته الأكيدة لمثل ذلك الدعم في مواجهة الضغوط الشديدة المسلّطة عليه من قبل كبار رموز العائلة السياسية الشيعية التي ينتمي إليها والمعروفين بموالاتهم لإيران وحرصهم على تأمين مصالحها وحماية نفوذها في العراق.
وجاءت أحدث رسالة دعم من الولايات المتحدة الأمريكية لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في آذار/مارس الماضي من خلال اتصال هاتفي، تلقّاه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وقال مكتب رئيس الوزراء العراقي في بيان إنّه جرى أثناءه بحث “تعزيز العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، والانتصارات المتحققة ضد داعش، والدعم الدولي للعراق في محاربة الإرهاب”. ونقل البيان عن ترامب قوله للعبادي إنّ “التعاون بين البلدين لا بدّ أن يستمر خصوصا في المجال العسكري”،ويبدو مثل هذا الخطاب الدبلوماسي الناعم أبعد ما يكون عن خطاب دونالد ترمب الاندفاعي والمتصلّب تجاه الجميع بما في ذلك أقرب حلفاء الولايات المتّحدة، والذي طال العراق في وقت سابق حين صرّح ترامب خلال حملته الانتخابية بوجوب الاستيلاء على النفط العراقي. والخطاب الدبلوماسي لإدارة الرئيس الامريكي دونالد ترمب تجاه العراق -دون شكّ- من صنع دوائر تفكير وصنع قرار وازنة تخطّط لعمل استراتيجي بعيد المدى لاحتواء هذا البلد الغني ذي الموقع الاستراتيجي بالغ الأهمية الذي يجعل منه مدار صراع إقليمي ودولي شرس.
وبالتوازي مع الجهد الدبلوماسي الأميركي المنصب على العراق، شرعت الولايات المتّحدة الأمريكية في تأمين وجود عسكري لها على الأراضي العراقية، لتصحيح ما تعتبره إدارة دونالد ترمب خطأ الانسحاب من هذا البلد وتسليمه لإيران بعد صرف “تريليونات من الدولارات” على غزوه وإسقاط نظامه السابق. وتمثّل الحرب على تنظيم داعش فرصة مواتية لتأمين تلك العودة العسكرية. فغالباً ما كان يُلقى اللوم في النجاح “الباهر” الذي حققه تنظيم داعش في العراق بحزيران/يونيو عام 2014 على فشل إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في تأمين وجود للقوات الأمريكية في العراق بعد عام 2011 . وان احتلال داعش لاراضي عراقية واسعة تضم محافظات ومدن كبيره عام 2014 وسيطرته على مايقارب نصف مساحة العراق اصبح مفتاح اعادة الاحتلال من جديد لان ماتبقى من القوات الأمريكية بعد الانسحاب ليست بقوات عسكرية كبيرة ولكن مجموعة من التمركزات المكلفة بمحاربة التنظيمات المسلحة، ومع احتلال داعش وتمدده لم يكن التدخل الامريكي حقيقيا وجادا في معالجته واقتصرت نشاطاته على طلعات استعراضية في ضرب تنظيم داعش، وعلى مايبدو إنّ الولايات المتحدة الأمريكية التي تأخرت في دعم حكومة حيدر العبادي ضد تنظيم داعش كانت لديها أسباب استراتيجية عديدة منها :
1-رغبة الولايات المتحدة الأمريكية بتلقين العراق درسًا لرفضه إقامة قواعد عسكرية أمريكية على أرضه.
2- وسعيها الى إبراز ضعف المجهود العسكري الإيراني وعجز طهران وبغداد عن إيجاد قوة نارية جوية واستخباراتية لاحتواء تقدم داعش.
3- ورغبتها في رضوخ الإدارة العراقية لكل طلباتها التي ستأتي لاحقا.
وقد جاء التحرك الأمريكي ضد تنظيم داعش في العراق استجابة للمعطيات الآتية:
اولا : أن الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما تدخل لحماية الكيان الكردي (شبه المستقل) من السقوط، لما يمثله من أهمية استراتيجية للمصالح الامريكية.
ثانيا: جاء تدخل اوباما بعد ساعات قليلة من اعلان شركات نفطية غربية كبرى (اكسون موبيل وشيفرون ودي ان او النريجية، وجينيل التركية) سحب موظفيها من شمالي العراق بسبب تقدم داعش، ما يعني تأثيرا مباشرا على امدادات النفط.
ثالثا: أن سقوط الاقليم الكردي يفتح الطريق امام داعش لتهديد دول مجاورة، في شرق العراق وشماله، ما يحوله الى خطر اقليمي مباشر للمصالح الحيوية الامريكية.
رابعا: ان سقوط سد الموصل الاستراتيجي تحديدا يمثل تتويجا لـ «فتوحات قوات داعش» المستمرة_آنذاك_ دونما تحد حقيقي في سورية والعراق، ما سيشجعها على استهداف بغداد، وهو ما كان ينذر بمجازر وحرب شوارع قد تستمر لشهور، وينتهي معها العراق كما عرفناه الى الأبد.
خامسا : ان الغارات الجوية الامريكية قد تفشل في تحقيق اهدافها حيث ان مواجهة داعش تسلتزم وضع قوات امريكية على الارض، وهو ما كان يرفضه اوباما تفاديا لتكرار خطيئة سلفه جورج دبليو بوش، وهو المسؤول الاول عن دخول القاعدة وأخواتها من التنظيمات المسلحة إلى العراق، إلى جانب أن التدخل الامريكي اصبح يفتقر الى اي شعبية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها المارينز اثناء احتلالهم للعراق.
وبعد كل هذه المعطيات قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال قوات عسكرية تدريجيا الى العراق ابتداء من منتصف عام 2014 واطلقت اسم عملية (الحل المتأصل للإرهاب) التي وصفها الامريكان انها لمساعدة العراق في محاربة الارهاب من خلال الدعم الاستشاري والتدريبي للقوات العراقية. ويبلغ عدد القوات الأميركية في العراق حاليًا 6000 جندي تقريبًا، في حين كان عددها 5262 جنديًا تحت إدارة أوباما. وفي سياق الدعم العسكري الأمريكي للعراق قال مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية إن الجيش في طور إرسال وحدتين عسكريتين إضافيتين إلى الموصل يتراوح عددهما ما بين 200 و300 جندي من الفرقة 82 المحمولة جوًا؛ بهدف “تقديم مزيد من النصح والمساعدة في عملية تحرير الموصل. كما تقول الوزارة إنها تستعد لإرسال ألف جندي إضافي من الفرقة نفسها لتقديم المشورة والمساعدة في الموصل إذا اقتضت الحاجة. وللفرقة 82 حوالي 1700 جندي في العراق والكويت يقومون بتقديم دعم لوجستي للقوات العراقية. كما أن ثمة ما يقرب من 1000 جندي أميركي حاليًا في سورية يقدمون المساعدة لـ “لقوات سورية الديمقراطية”. وكان الجيش الأميركي قام في 22 آذار/ مارس الماضي بعملية إنزال جوي لمقاتلين من “قوات سورية الديمقراطية” قرب مدينة الطبقة بمحافظة الرقة السورية. كما كثفت القوات الأميركية من ضرباتها ضد “داعش”، حيث وصلت حاملة الطائرات “يو إس إس جورج إتش دبليو بوش” إلى الخليج العربي وبدأت تنطلق منها طائرات لشن ضربات جوية. كما تقوم القوات الأميركية بتقديم دعم مدفعي لحلفائها في كل من سورية والعراق.
ويبدو أن الحديث عن زيادة كبيرة في عدد الجنود الأميركيين العاملين في العراق، لم يأت من فراغ. فعمليا، أكمل الجيش الأميركي جميع مستلزمات إنشاء قاعدة عسكرية مؤقتة قرب منطقة الرطبة التي تقع على مسافة نحو 400 كلم غرب مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار، وستشكل هذه القاعدة مركزًا للعمليات التي تستهدف تأمين الطريق الدولي الذي يربط العراق بكل من الأردن وسورية. ويهيمن مقاتو كتائب حزب الله ومنظمة بدر، المواليتين لإيران، على أجزاء واسعة من الطريق الدولي لا سيما العُقد الرئيسية التي تربط العاصمة بغداد بمحافظة الأنبار. كما سيسعى الجيش الأميركي لاحتواء خطة ينفذها الحشد الشعبي، وتستهدف إنشاء معسكرات في ثلاثة مواقع في محيط محافظة الأنبار، من الجهات الشرقية والشمالية الغربيـة والغـربية، تحسبا لأي “تمرد سنّي” مستقبلي في هذه المحافظة التي تصنف منذ 2003 على أنها ساخنة.
فالتحركات المثيرة للحشد الشعبي في الأنبار تثير حفيظة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، لكنه لايستطيع عن احتوائها بسبب اتساع مساحة هذه المحافظة وطابعها الصحراوي وانشغال القوات العراقية بمعركة الموصل، لذلك قد يتولّى الأميركيون القيام بهذا الدور. ويعمل مستشارون عسكريون من الجيش الدنماركي بإشراف عسكري أميركي على تدريب وتسليح 2500 مقاتل من الأنبار في قاعدة عين الأسد غرب المحافظـة. وينتظـر أن تعمـل هـذه القـوة إلى جـانب القوات الأميـركية في تأمين المناطق الصحراوية بالأنبار. ويتضح من كل ذلك وجود اهتمـام فعلي من قبل الولايات المتحـدة الأمريكية بالتمـركز في منـاطق غرب العراق وشرق سورية كون تلك المناطق تمثّل مفتاحا من مفاتيح محاصرة النفوذ الإيراني عبر إنشاء “سدّ” يمنع التواصل الحرّ بين طهران ودمشق مرورا بالأراضي العراقية.
في المقابل تتحدث قيادات في قوات الحشد الشعبي عن ضرورة القيام “بانقلاب عسكري” في العراق لانتزاع الحكم من رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي يواجه حملة شرسة تتهمه بـ”العمالة المطلقة للولايات المتحدة”. ويعكس ذلك مقدار قلق كبار قادة الفصائل المسلحة الشيعية المشكّلة للحشد من التقارب الملحوظ بين العبادي وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهو قلق معبّر في جوهره عن موقف إيران التي تقف خلف تلك القيادات، والمتوجّسة من أن يصبح الرجل “أداة” أميركية لمحاصرة نفوذها في العراق. ويقول أوس الخفاجي، وهو قائد فصيل أبوالفضل العباس، إحدى فصائل الحشد التي تنشط بالقتال إلى جانب قوات بشار الأسد في سورية، فضلا عن قتالها ضدّ تنظيم داعش في العراق، إن الانقلاب العسكري وعزل حكومة العبادي، هو السبيل الوحيد لاستعادة القرار العراقي المرتهن لواشنطن. و”يُتّهم” رئيس الوزراء العراقي حيدر العبـادي بالتستر على انتشار الآلاف من الجنود الأميركيين في عدد من المواقع داخـل العـراق، لا سيمـا شـرق محـافظة ديالى قرب الحـدود مـع إيـران، وغـرب محـافظة الأنبار الحدودية مع كل من سوريا والأردن.
ويخيم التوتر على العلاقة بين عدد من قادة فصائل مسلحة معروفة بموالاتها لإيران ورئيس الوزراء منذ عودة الأخير من زيارة إلى الولايات المتحدة، تسرّب أنه وعد الرئيس ترمب خلالها بحل قوة الحشد الشعبي. لذا هناك توجّس إيران من خطوات التقارب المتسارع بين رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي والإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترمب، بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على النفوذ الإيراني في العراق.
تشير التقارير أن العراق كان محور الصفقة في الاتفاق النووي الامريكي مع ايران منها عودة الولايات المتحدة للعراق بقواعد عسكرية ثابتة في المناطق (السنية) التي تعاني من سيطرة داعش، إضافة الى تنامي الدور الروسي في المنطقة من خلال البوابة السورية. وإقامة روسيا لها قواعد عسكرية ثابتة بعد نشر منظومة صواريخ “أس 400” داخل الأراضي السورية لذا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية بحاجة ماسة لتواجد عسكري على الأرض في الجوار السوري وتحديداً في الرمادي العراقية وعلى حدود الموصل الشمالية وهو ما يفسر التواجد العسكري الامريكي وقوات من التحالف ( كندية وفرنسية ) على الارض في المناطق القريبة من سوريا، والتطور الاخر يتمثل بإعلان الايرانيون قبل معركة الموصل نواياهم بإنشاء خط يوصل ايران بسوريا عبر الموصل وتلعفر وحلب وهذا ما سيؤثر على مصالح الولايات المتحدة والغرب. الاحتمال الاخر لمسببات اعادة التواجد العسكري الامريكي هو التمهيد للمضي قدماً في إحتمال تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث، سنية في غربه وكردية في شماله وشيعية في جنوبه.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية