لا يتفق مؤيدو ومعارضو دونالد ترامب على الكثير من الأشياء، لكن ثمة نقطة إجماع واحدة، هي أنه سوف يغير جذرياً السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وكان ترامب قد خاض الانتخابات الرئاسية الأميركية على قاعدة تعهده بتصحيح السياسة الخارجية “الكارثية” التي انتهجها سلفه الرئيس باراك أوباما. ووعد في اليوم الأول له في البيت الأبيض بتمزيق اتفاقية إيران النووية -التي وصفها بشكل متكرر بأنها “أسوأ اتفاقية تم التفاوض عليها على الإطلاق”. ووعد بالكشف عن خطة سرية لتدمير “داعش” خلال 30 يوماً، وبنقل السفارة الأميركية في إسرائيل (من تل أبيب) إلى القدس، وباستعادة سمعة أميركا المنهارة كما يزعم -وكانت هذه مجرد البداية وحسب.
لم أكن متأكداً من أنه سيفعل. فكل رئيس جديد، منذ جيمي كارتر، دخل البيت الأبيض وهو يعِدُ بتغيير مكانة أميركا في الشرق الأوسط بشكل جذري، لكن كل رئيس تقريباً وجد في الحال أن خططه تنقلب بفعل الوقائع الإقليمية. وبعد وقت قصير من انتخاب ترامب، نشرت مقالاً طويلاً في فصلية “واشنطن كوارترلي”، وقلت فيه أن ترامب سيجد أن تغيير دور أميركا في الشرق الأوسط أصعب بكثير مما توقع. ومن شأن المصالح والمحدوديات الأميركية الدائمة وتوقعات حلفاء وأعداء الولايات المتحدة، والضغط من مجتمع الاتجاه السائد في السياسة الخارجية، والتناقضات في وعوده، أن تجبر كلها سياساته على العودة إلى شيء قريب من السياسات الأميركية التقليدية.
إذا نظرت إلى تغريدات ترامب الماضية على وسيلة التواصل الاجتماعي “تويتر”، وادعاءاته الغرائبية وسوء إدارته للبيروقراطية، فسيبدو أن البناء التقليدي هو الذي يكسب حتى الآن. وقد مضت الآن بضعة شهور، لكن هناك استمرارية في السياسات الفعلية أكثر بكثير من التغيير. فعلى جبهة الموظفين، مكث الجنرال (المتقاعد) مايكل فلين، الذي ربما يكون الأكثر تطرفاً بين مستشاري السياسة الخارجية عند ترامب، في منصبه أقل من ثلاثة أسابيع. وكان من الممكن بسهولة اختيار كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي، مكماستر، لو فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة، بينما يبدو وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، مهمشاً كلية تقريباً. وثمة العديد من الشخصيات الهامشية المتطرفة التي رُشحت أسماؤها لشغل مناصب عليا في الإدارة، والتي ما تزال بانتظار الحصول على المناصب، بينما واجه الذين حصلوا على وظائف تمحيصاً مكثفاً.
وإذن، ما الذي فعله ترامب في الحقيقة؟ الشيء الأهم هو أن صفقة إيران لم تمزق. وبدلاً من ذلك، يبدو أن ترامب ينوي استخدام تشكيكه في الصفقة كوسيلة ضغط لإجبار إيران على الانضباط في المواضيع الإقليمية. وجاء ذلك بموازاة بعض الاستعراض للعضلات ضد إيران في اليمن، التي ما تزال (حتى الآن) من بين كل الأماكن، حرب وكالة بدل أن تكون حرباً شاملة مع طهران. وقد يتم تقويض صفقة إيران بعقوبات من الكونغرس أو بفعل التطورات على الأرض، لكن ذلك سيعزل الولايات المتحدة بينما تستمر بلدان أخرى -بما فيها حلفاء أميركيون- في بناء علاقات مع طهران. وبينما يعتبر الوصول إلى الشفير مع إيران خطراً، فإن هذا الخط الأشد فيما يتعلق بنفوذ إيران الإقليمي هو نفس النهج الذي كانت لتتبناه هيلاري كلينتون.
وفيما يتعلق بإسرائيل أيضاً، سارت سياسة ترامب بشكل وثيق أكثر مما كان متوقعاً مع التقاليد. وكما قدمت إدارات سابقة تعهدات مشابهة لم تتجسد بعد ذلك، تعهد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وما تزال الولايات المتحدة وإسرائيل تتشاحنان مرة أخرى بسبب المستوطنات في الضفة الغربية. وربما يكون ترامب قد تراجع عن الالتزامات الأميركية التقليدية بحل الدولتين، لكنه أشار إلى اهتمامه بالتوسط للتوصل إلى صفقة سلام إسرائيلية- فلسطينية، ومن المرجح أن يكون لاهتمامه نفس أثر ذلك الاهتمام الذي أبدته إدارتا جورج دبليو بوش وباراك أوباما: محادثات لا تنتهي، والتي تقدم غطاء إقليمياً للدول العربية للتعاون مع إسرائيل، وغطاء محلياً لإدامة السلطة الفلسطينية من دون إحراز أي تقدم حقيقي في اتجاه حل الدولتين.
كما سبق وكان متوقعاً، يتبين أن خطة ترامب السرية لهزيمة “داعش” تستند في أغلبها على مواصلة حملة الرئيس باراك أوباما. وبينما ما تزال هناك وتيرة مكثفة من القصف وزيادة في نشر قوات أميركية على الأرض في سورية، فإن أساسيات هذه الحرب تظل كما هي. ويستمر ترامب في العمل عن كثب مع الحكومة العراقية، على الرغم من المخاوف المتعلقة بالنفوذ الإيراني في العراق. كما أن الرئيس لم يتراجع عن التشارك مع الأكراد السوريين في الحملة المعادية لـ”داعش”، على الرغم من امتعاض الأتراك من دور الأكراد. أما “المناطق الآمنة” المقترحة في سورية (وهي في حد ذاتها فكرة سيئة ليست بعيدة عما اقترحته كلينتون)، والتي تحدث عنها تيلرسون، فإنها لا تعدو أن تكون فكرة نصف مخبوزة. وربما يفترق ترامب عن أوباما في أنه لم يعد يقدم خدمة شفوية للفكرة التي تقول بأنها تجب إزاحة الأسد عن السلطة في سورية، لكن هذا التحول بعيداً عن تغيير النظام كان يشكل حقيقة الأمر الواقع منذ أعوام.
من المؤكد أن ترامب ما يزال متحمساً صراحة أكثر من أوباما للعمل مع الأوتوقراطيين العرب. ويقال أن الإدارة أزالت قيود حقوق الإنسان عن مبيعات الأسلحة للبحرين والسعودية، ودعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى البيت الأبيض (الذي زار واشنطن واجتمع مع الرئيس ترامب) وخفضت منزلة حقوق الإنسان والديمقراطية في كل مناطق السياسة الخارجية.
ولكن وللأسف، ما الذي يمكن أن يكون متساوقاً مع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط غير تبني الدكتاتوريين باسم الاستقرار؟ كان أوباما قد تبنى الانتفاضات العربية في العام 2011 وتحدث بقوة عن التطلعات العربية إلى الحرية -في واحدة من أفضل لحظات رئاسته- لكن هذا التحمس المؤقت لم ينج من انبعاث الأوتوقراطية في المنطقة. وكان أوباما قد قرر بعد الكثير من النقاش الداخلي القبول بالانقلاب العسكري في مصر في شهر تموز (يوليو) من العام 2013، وأقر مستويات غير مسبوقة من مبيعات الأسلحة لدول الخليج. وما تزال متابعة إدارة ترامب للحروب الكارثية في جنوب الجزيرة العاربية واحدة من أسوأ الأخطاء في سياسة الشرق الأوسط. وقد يسعد بعض القادة العرب بدعم ترامب المتحمس لقمعهم المحلي وحروب الوكالة الإقليمية، لكن الاختلاف مع أوباما هو اختلاف في النبرة أكثر منه في الممارسة.
يظل خطاب ترامب عن المسلمين والإسلام واللاجئين مرعباً بكل المقاييس. وما من شك في أنه سيحدث ضرراً دائماً لعلاقات أميركا مع مسلمي العالم. لكن هذا الأمر يتحدد مرة أخرى بالبنية والمؤسسات. وقد أثارت الأوامر التنفيذية البشعة التي أصدرها ترامب والتي تحد من الهجرة من بلدان مسلمة مختارة مقاومة واسعة النطاق، بالإضافة إلى رفضها بسرعة من جانب المحاكم. وهو يفكر الآن بإرجاء تصنيف الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي بعد أن حذرت وزارة الخارجية من التعقيدات التي ينطوي عليها هكذا تصنيف. وللإنصاف نقول إن لديه فعلاً مستشارين يستحضرون كلمات سحرية مثل “إرهاب إسلامي متطرف” وما شابه. وهذا كل شيء.
من المفهوم أن مجموعة الشؤون الخارجية قد تكون في حالة غضب أبدي بسبب مغامرات فريق ترامب الهاوي والمولع بإصدار البيانات الصادمة، كما أن الدبلوماسيين الأجانب يتندرون على نحو مفهوم من رئيس يقوم بتعيين صهره في منصب كبير ويغرد عن كلبه، سنوب دوغ. لكن سياسة ترامب الشرق أوسطية ما تزال عادية وتقليدية بشكل مدهش. ومع أنه يقول عبارات كبيرة، فقد أثبت إلى حد كبير أنه غير قادر -أو غير راغب- في إحداث كل ذلك التغيير في سياسة أميركا الشرق أوسطية. وبدلاً من ذلك، ما يزال يدير غالباً شرق أوسط أوباما بطريقة أكثر بدائية وحربية.
لا يعني هذا القول إنه لا يوجد سبب للقلق بشأن جبهة سياسة الشرق الأوسط. كانت مقاربة ترامب للإسلام مدمرة سلفاً. وتولد تغريداته المقلقة وبته الأبيض الفوضوي والسياسات العدوانية حالة عدم يقين وتخلق أزمات محتملة. ويقود تصعيده للحربين في اليمن وسورية (وما يبدو تخفيفاً لقواعد الاشتباك للضربات الجوية) أصلاً إلى جر الولايات المتحدة نحو منحدر زلق وإلى داخل مستنقع خطير، مع القليل من الدليل على إدراك التداعيات المحتملة.
لقد مضت شهور قليلة على رئاسة ترامب بطبيعة الحال. ومن الممكن أن ينفد صبره قريباً من سياسات الأمر الواقع ويغير اتجاهه فجأة. وقد يعمد في النهاية إلى ملء إدارته بمسؤولين يريدون في الحقيقة تغيير سياسة الشرق الأوسط بشكل جذري. ولعل المقلق أكثر هو أن يقرر تصعيد صراع ما، أو أن يلقي بصفقة إيران النووية في دورة الشك، فقط من أجل أن يوقف دورة أخبار غير ودية.
ومع ذلك، يأتي الخطر الأكبر في الوقت الحالي من الكيفية التي قد تستجيب بها إدارة ما تزال غير مجربة وتفتقر إلى الموظفين الأكفياء لأزمة مفاجئة. ومن الممكن أن يتصاعد الدفع ضد إيران في اليمن فجأة. وثمة احتمال لأن يتم شن هجوم ناجح على القوات الأميركية المنتشرة في العراق وسورية. ومن الممكن أن تندلع انتفاضة شعبية ضخمة في واحدة أو أكثر من الدول الأوتوقراطية الهشة التي ضاعف ترامب دعمه لها في الخليج أو مصر. وقد تنجر إسرائيل إلى حرب جديدة مع حزب الله أو حماس. ومن الممكن انهيار السلطة الفلسطينية. وسوف تكون الاستجابة لهذه الأنواع من التطورات المقلقة –من الأزمات التي واجهت كل رئيس أميركي- هي التي ستكشف نوايا ترامب الحقيقية وقدراته في الشرق الأوسط. ولكن في الوقت الراهن، وعلى الرغم من كل التهديد والوعيد، أثبتت سياسة ترامب الشرق أوسطية أنها طبيعية فقط، بشكل لا يصدق.