اختصرت صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الأميركي تيلرسون في موسكو جدلا محتدما حول القراءة السياسية لأبعاد الضربة الصاروخية الأميركية لقاعدة الشعيرات الجوية في شرق حمص، باعتبارها مؤشرا حاسما على تغيير في السياسة الأميركية تجاه سوريا.
ثمة من قلّل من أهمية الضربة وأدرجها في إطار نزوع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاستعراض وقلة الخبرة وغياب استراتجية أميركية واضحة تجاه الشرق الأوسط، ورددت هذا الحديث جوقة النظام السوري الإعلامية وحليفه الإيراني، فيما اعتبرت أطراف في المعارضة السورية أن الصواريخ التسعة والخمسين هي بداية انقلاب جذري في السياسة الأميركية وأن مستقبل الأسد بات على صفيح ساخن.
لكن ساعتين من المباحثات بين بوتين ورئيس الدبلوماسية الأميركية، الذي يعتبر صديقا لموسكو، وحاصلا على أحد أوسمتها الرفيعة، كانتا على درجة من الأهمية للخروج باستخلاصات سياسية لا تفضي نتائجها إلى أننا أمام انقلاب أو تغيير جوهري أو قطيعة واستقطاب يذكر بأيام الحرب الباردة.
أعلن الجانبان صراحة في المؤتمر الصحافي لوزيري الخارجية أنهما مختلفان في خواتيم الأزمة السورية، وفي مقاربات البحث عن الجهة المسؤولة عن استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون ومتفقان على مكافحة الإرهاب والحل السياسي للصراع في سوريا وأنهما بصدد إعادة العمل بقنوات الاتصال.
إخفاقات روسية
بين عبارة تيلرسون “بضرورة رحيل الأسد بطريقة منظمة” وعبارة وزير الخارجية الروسي لافروف بأن بلاده “لا تتمسك بالأسد، لكنها تدعم الحفاظ على سوريا دولة علمانية موحدة” ثمة مساحة واسعة للقاء والتفاهم، فاللغة المستخدمة تصالحية ودبلوماسية بامتياز.
ورغم اعتراف تيلرسون بقلة خبرته الدبلوماسية فإنه كان بحاجة على ما يبدو إلى توظيف عبارات في سياق التاريخ، فالحوار بين بلدين نوويين كبيرين ضروري ومستمر. وتم التطرق في المباحثات إلى قضايا اشتباك دولية مختلفة من الحرب السيبرانية إلى أزمة الصواريخ الكورية الشمالية إلى ملف أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وفوق كل ذلك الحصار والمقاطعة الاقتصادية المفروضة على روسيا.
من شقوق الأزمة السورية ينفذ الرئيس الأميركي ومؤسسته العميقة من أجل تسوية تستوعب المصالح الروسية
من هنا يمكن البدء بتفكيك الرسائل المتعددة التي حملتها الصورايخ الأميركية على الشعيرات وكيف أن أهدافها تتجاوز دمشق والأزمة السورية نحو الصراع المفتوح مع موسكو حول عدد من الملفات الدولية.
منحت واشنطن طيلة ما يزيد على عام ونصف العام موسكو الفرصة الكافية لتدير الشأن السوري منفردة، تحدوها الرغبة المعلنة على الأقل في أن تحول روسيا انتصاراتها ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى آليات تسمح بولوج المرحلة الانتقالية والانتقال السلمي والأمن للسلطة بحسب القرار الأممي 2254.
لكن موسكو بلغة واشنطن الجديدة “تعسّفت في استخدام هذا التفويض” الذي يشبه التواطؤ، وانحازت بالممارسة الميدانية لفكرة النظام السوري وإيران التي تغلب الحسم العسكري كمقدمة لفرض الحلول السياسية والتي لا يتجاوز سقفها إشراك المعارضة في حكومة يديرها الأسد.
وفشلت موسكو بالتعاون مع تركيا، في فترة شهر العسل القصير، في تحويل الأستانة إلى قاطرة لتعويم وتطويع المعارضة المسلحة وتأهيلها لدور سياسي تمثيلي. ولم تنجح أيضا في ضبط حليفها السوري حينما أصر مندوب النظام بشار الجعفري في مفاوضات جنيف على وضع بند رابع على جدول أعمال الممثل الأممي ستيفان دي مستورا المقترح وهو الإرهاب والأمن.
وكان هذا البند مرحّلا إلى منصة الأستانة كما أعد أجندتها الروسي. هكذا أفشل الاستفراد والغطرسة الروسية أصول اللعبة، فقد تصرفت روسيا كدولة انتداب من القرون الماضية، مقدمة إيران كشريك رئيس دون اعتبار للمصالح الإقليمية والدولية المتورطة في النزاع السوري.
يتضح اليوم أنه ومن شقوق الأزمة السورية ينفذ الرئيس الأميركي ومؤسسته العميقة إلى أهدافهما الإستراتيجية البعيدة في الضغط من أجل التوصل إلى حزمة تسويات للأزمات الدولية تستوعب المصالح الروسية وتضعها في حدودها الطبيعية وتستدرج صفقة حول سوريا باتت معالمها تلوح في الأفق. ومردّ ذلك أن التوافقات ليست قليلة وفي مقدمتها “منع المتطرفين من الوصول إلى دمشق وعدم تكرار ما جرى في ليبيا والعراق”. من هنا لا تبدو واشنطن في وارد تغيير جذري لقواعد اللعبة أو إعادة النظر في قسمة النفوذ الميداني على الأرض عندما يتعلق الأمر بالحرب على داعش.
لا تبدو واشنطن في وارد العودة إلى سياستها التدخلية الواسعة على غرار إدارة بوش الابن في أفغانستان والعراق
يلاحظ أن الرئيس الأميركي، الذي يوصف بالمتهور، يبني استراتيجيته على نار هادئة بعد إعلانه المدوي بقوة التوماهوك نهاية مرحلة الاستفراد الروسي بالملف السوري والمشاركة الفعالة في الحرب على الإرهاب وإعادة رسم خارطة النفوذ الجديدة على الأرض بما قد يدفع الروسي إلى طي أوراقه التي وظفها منذ تدخله العسكري والتي تمثلت بتأمين أهم المناطق في سوريا من دمشق إلى حمص وحماة والساحل مضافة لها حلب المدينة. لكن لم تنه هذه المقاربة الصراع ولم تفض إلى استسلام المعارضة بل عززت نفوذ القوى الإرهابية وفاقمت الكارثة الإنسانية التي لا يمكن احتمال فظائعها.
وتلاحظ جدية التحول الحاصل في الموقف السياسي في اليوم التالي للضربة الصاروخية، حيث أكدت المصادر الميدانية أن القوات الأميركية والبريطانية عززت تواجدها في قاعدة التنف القريبة من الحدود العراقية. ولوحظت حشود عسكرية أردنية على حدودها الشمالية. وتابعت قوات الجيش الحر بفصائلها الخمسة بقيادة طلاس السلامة قائد جيش أسود الشرقية تحرير مناطق واسعة من البادية الشرقية من تنظيم داعش على مساحة تصل إلى نحو ثلاثمئة كلم.
ويجري دعم هذه القوى تدريبا وتمويلا وتسليحا من غرفة عمليات الموك التي تشرف عليها واشنطن من عمان، استعدادا لمعركة دير الزور التي فشل النظام وحلفه الروسي في فك الحصار المستمر على مطار المدينة والقاعدة العسكرية. ويفتح التقدم الملموس لقوات المعارضة في معركة المنشية وسط درعا الباب لحسم معركة الجنوب السوري التي يصارع النظام للحفاظ على جزر معزولة لقواته على خط الدفاع الأخير عن العاصمة.
حدود المناورة الأميركية
في القراءة المتفحصة، لا تبدو واشنطن في وارد العودة إلى سياستها التدخلية الواسعة على غرار إدارة بوش الابن في أفغانستان والعراق. فعصر الحروب الوقائية والاستباقية انتهى إلى غير رجعة معززا بإجماع داخلي. ويمكن القول إن الاستدارة الأميركية المحدودة لا تصل إلى مرحلة الدخول في معركة لإسقاط الرئيس الأسد كما يتمنى بعض رموز المعارضة السورية. يتشارك الأميركي والروسي في النظرة والتقييم للمعارضة العسكرية باعتبارها تنتمي في غالبيتها إلى مرجعيات سلفية جهادية متدرجة الطيف لكنها تتوحد على هدف نهائي هو إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة.
ستبقى الأولوية لإعداد المسرح السياسي والميداني الذي يمكن من عبور آمن ومنضبط للانتقال السياسي في سوريا
ولهذا فإن واشنطن تدرك أن الظروف الموضوعية والذاتية لأطراف المعادلة السورية لن تفضي إلى اختراقات جدية في المدى المنظور والذي يعني سنوات قد تطول، وبالتالي فإن تفجير الصراع مع موسكو في الوقت الراهن قد يفتح أبواب جهنم، والخلاف حول الميل الأخير المتعلق بمستقبل الأسد يمكن التفاهم عليه في حينه وسيظل نقطة خلاف معلنة.
ستبقى الأولوية لإعداد المسرح السياسي والميداني الذي يمكن من عبور آمن ومنضبط للانتقال السياسي في سوريا، وفي مقدمة الأهداف استمرار الحرب على داعش وإنهاء دولتها المزعومة، وذلك يحتاج إلى تنسيق وتعاون مع الروسي والتركي.
وهناك مهمة أخرى لا تقل أهمية وخطورة وهي المعركة ضد جبهة النصرة وحلفائها المصنفين على قائمة الإرهاب. وتعطي واشنطن لبعض الأطراف الإقليمية الفرصة والزمن الكافيين من أجل تعويم جبهة النصرة والتخلص من كل القيادات الأساسية التي لا تزال على بيعتها المتصلة للقاعدة وزعيمها أيمن الظواهري.
وكذلك يطرح ملف الانتهاء مما يسمى اليوم في الحالة السورية ملف المقاتلين الغرباء أو الأجانب والذين يتركز وجودهم اليوم في الحزب التركستاني الإسلامي بغالبيته من الإيغور الصينيين والآذريين والتركمنستان ومجموعات أخرى من بقايا جند الأقصى الذين التحقوا بتنظيم داعش بعد تغولهم على الفصائل المعارضة.
من جهة النظام السوري هناك العشرات من المنظمات الإرهابية المتطرفة القادمة من لبنان والعراق وأفغانستان وإيران وباكستان. وضمن هذا السياق يتم تداول مصطلح يعرف “بعام التنظيف” للأجانب. ويتابع البنتاغون في الوقت ذاته ومن الجبهة الجنوبية والقلمون الشرقي تقدم وإعداد وتأهيل القوى العسكرية المعارضة “المفحوصة أمنيا وعقائديا” والمكونة في غالبيتها من قوى عشائرية تتمتع بانضباط عسكري عال.
إذا ما أثبتت هذه الفصائل جدارتها في مهماتها الجديدة، فإن هذه القوى ذات الصبغة الوطنية المعتدلة يمكن أن تصبح فرس الرهان القادم في المعادلة السياسية والانتقال الآمن للسلطة. وتحتاج هذه الأهداف الكبرى في سوريا إلى تعاون دولي وإقليمي فاعل، الأمر الذي يفوق طاقة واشنطن منفردة، خاصة بعد فترة السبات الأميركي التي سبقت الانتخابات العامة، والتي أسفرت عن انفراد روسي بالوضع السوري وتقاسم للنفوذ مع طهران.
محمد مشارقة
صحيفة العرب اللندنية