لنتفق أولاً أن تدمير كل التماثيل المصنوعة من حجر أو تراب أو معدن لا تساوي قتل طفل بريء واحد. ولو خيرت بين تدمير ألف تمثال من أجل إنقاذ نفسٍ بريئة لما ترددت في التضحية بكل التماثيل من أجل أن يعود طفل سالماً إلى حضن أمه أو فتاة إلى كنف والديها.
هذا لا يعني أننا لا ندين تدمير المعالم التراثية والعريقة التي لا تقدر بثمن. إنها كنوز تعاقبت عليها الحقب والأزمان والسلاطين والملوك والأباطرة ومرت عليها دول وممالك عديدة من الملل والنِحل الإسلامية وغير الإسلامية كافة فلم يجدوا فيها ضيراً يلحق بالإسلام أو بالأديان جميعاً إلى أن جاء الملا عمر وأتباعه من القاعديين وصولاً إلى أبي بكر البغدادي وأجناده من الدواعش فأعملوا المتفجرات والقذائف والصواريخ هدماً وتدميراً في كنوز العالم الإسلامي فقط.
ونود في هذا المقال أن نعرض صورتين من التعامل الدولي إزاء كارثتين، واحدة تتعلق بتدمير الحجر في أفغانستان والأخرى تتعلق بتدمير البشر في ميانمار (بورما سابقاً). الدنيا كلها قامت ولم تقعد عندما قرر أتباع الملا بتدمير تماثيل بوذا في أفغانستان. أما في حالة تصفية مسلمي الروهينغا فقد عبر بعض المسؤولين عن قلقهم وربما وصل الأمر إلى التنديد والشجب والإدانة. ولنراجع النفاق الدولي في الحادثتين.
تدمير تماثيل بوذا 2001 وانتفاضة المجتمع الدولي بتاريخ 12 آذار/مارس 2001 توجه وفد كبير من علماء المسلمين على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي إلى أفغانستان بناء على تعليمات من منظمة المؤتمر الإسلامي التي كانت ترأسها قطر آنذاك في محاولة أخيرة لإقناع الملا عمر وأتباعه بعدم هدم التمثالين العملاقين اللذين أقيما في ولاية بانيان حيث بني الأول وهو الأصغر (35 متراً) عام 507 ميلادية والثاني وهو الأكبر (53 متراً) سنة 54.
وكان وزير الخارجية الياباني، يوهي كونو، قد طلب مساعدة من نظيره القطري حمد بن جاسم، الذي لبى النداء وتوجه وفد من نحو 40 عالماً وناشطاً إسلامياً إلى كابل من بينهم مفتي مصر والشيخ محمد الراوي والكاتب فهمي هويدي والشيخ القره داغي من قطر وغيرهم.
وكان هدف اللقاء إقناع الملا عمر بعدم تنفيذ وصية وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتدمير التماثيل لأنها مخالفة للشريعة أو وقف الهدم إذا بدأ فعلاً. وكان القرضاي قد أصدر فتوى قبل توجهه إلى أفغانستان مفادها «أن هذه التماثيل لا تعبد ولذلك لا تشكل خطراً على الإسلام والمسلمين ولذلك لا يجوز تدميرها». وكي لا يزعج الوفد الإسلامي حركة طالبان، أعلن الوفد بأن الهدف من الزيارة تبادل الآراء حول المشاكل التي يعيشها الشعب الأفغاني. وقال «لم تكن من أجل الأصنام ولكن لتقديم النصيحة والتشاور والتحاور مع قادة أفغانستان الشرعيين. الإخوة في أفغانستان غير مرتاحين لموقف المنظمات الدولية التي ثارت وغضبت لأجل الأصنام بالرغم من أنه أمر داخلي، لكنها لم تلق بالاً لـ400 طفل يموتون يومياً من البرد هناك ولم تفعل شيئاً إزاء نزع 20 مليون لغم تركها السوفييت في أفغانستان». رد عليهم كبير علماء طالبان محمد ثاقب قائلاً: «لو توجه علماء المسلمين إلى الهند لإقناعها بعدم تدمير مسجد بابرى عام 1991 أو مساجد البوسنة أو كافحوا من أجل القدس المحتلة لأكبرنا حضورهم إلى هنا».
وكان مفتي الديار المصرية، نصر فريد، قد أصدر فتوى مشابهة حيث أعلن أن المحافظة على التماثيل في الإسلام ليس ممنوعاً.
«إنها تمثل سجلاً للتاريخ وليس لها أي أثر سلبي على المسلمين».
رئيس الوزراء الياباني اتصل بالرئيس المصري وقتها حسني مبارك وطلب منه المساعدة. فأوفد مندوبًا رئاسيًا لإقناع الملا عمر بالعدول عن قراره ولم يستجب.
منظمة اليونسكو ورئيسها الياباني آنذاك، كويتشيرو ماتسورا، لم يترك فرصة لمنع تدمير التمثالين إلا وطرقها دون جدوى. ووصف عملية التدمير بأنها «عدوان سافرعلى جزء من ضمير وتراث وهوية الإنسانية» وأرسل مندوبه بيير لافرانس، على أمل التفاوض مع طالبان حتى يعدلوا عن التدمير دون فائدة.
الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت قراراً بالإجماع يوم 26 شباط/فبراير 2001 تعبر عن صدمتها لقرار طالبان بتدمير التماثيل وطالبت حركة طالبان بحماية التراث الأفغاني «من كل محاولات التخريب أو التدمير أو السرقة». وطالب القرار جميع الدول بالمساهمة في حماية التمثالين النادرين لبوذا واتخاذ الوسائل كافة لذلك بما فيها نقل التمثالين خارج البلاد. وقد عرض المندوب الهندي في الجلسة على طالبان أن يسمح للهند بنقل التمثالين واستضافتهما في بلاده. الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي عنان طار بنفسه إلى باكستان والتقى هناك بوزير خارجية طالبان، وكيل أحمد متوكلي، وطلب منه وقف عملية التدمير فاعتذر منه الوزير. سيد رحمة الله، مستشار الملا عمر صرح لجريدة النيويورك تايمز بتاريخ 19 آذار/مارس 2001 أن السبب في تدمير التماثيل ليس لأنها خطر على الإسلام بل عندما جاءت الوفود الأوروبية والإسلامية لتعرض على طالبان المبالغ الطائلة لحماية وترميم التماثيل.
«وعندما قلنا وماذا عن أطفال أفغانستان الذين يموتون من سوء التغذية بسبب الحصار قالوا لنا هذه الأموال مخصصة فقط لحماية وترميم التماثيل وعندها قررنا تدميرها لأننا رأينا كيف أن الحجارة بالنسبة لهم أغلى من الأطفال».
جريمة الإبادة البشرية لمسلمي ميانمار
المسلمون في ميانمار أقلية لا يزيد عددها عن 4 بالمئة. وقد بدأ اضطهاهم على أيدي الأغلبية البوذية منذ القرن السادس عشر حيث منعوا من أكل اللحم الحلال وكذلك منعوا من أكل لحم الخروف والدجاج. وقد تعرضوا لمجازر في القرن الثامن عشر ومنعوا من ممارسة طقوسهم الدينية. استمر الاضطهاد في عهد الأنجليز المعاصر، ولكن بعد عام 1962 تغير وضع المسلمين تماما حيث منعوا من دخول الجيش وأجهزة الدولة وحرموا من الجنسية. وقد تكرر حادث تجمع مئات البوذيين ومهاجمة بيوت المسلمين ومساجدههم، بدأت عمليات الفرار من البلاد وخاصة إلى بنغلاديش عبر البحر. وللإطلاع على أوضاعهم دعنا نراجع بعض التقارير الحديثة التي قدمت لمجلس حقوق الإنسان عن أوضاع مسلمي الروهينغا:
جاء في تقرير قدمته السيدة، يانغي لي، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في ميانمار، أن التمييز والاضطهاد الممنهجين لمسلمي الروهينغا وغيرهم من الأقليات يدعوان إلى تشكيل لجنة للتحقيق في هذه الادعاءات.
وقالت إنها «استمعت لادعاءات تلو أخرى عن وقوع حوادث مروعة، منها الذبح، وإطلاق النار العشوائي وإحراق المنازل وبداخلها أناس مقيدون، وإلقاء أطفال صغار للغاية في النار، بالإضافة إلى الاغتصابات الجماعية وغيرها من أشكال العنف الجنسي. حتى الرجال انهاروا وبكوا أمامي وهم يحكون لي عما مروا به وعما فقدوه». وقالت إن الصراع أجبر أكثر من عشرة آلاف شخص على الفرار من ديارهم وعبور الحدود مع الصين. وذكرت المقررة الخاصة أنها تلقت تقارير تفيد بوقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من قبل كل أطراف الصراع، بما في ذلك التعذيب والعنف الجنسي والقتل التعسفي. وكان المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين، قد أرسل فريقاً من محققي المكتب إلى بنغلاديش عبر الحدود مع ميانمار، وذلك بعد الفشل المتكرر في الحصول على تصريح للوصول إلى المناطق الأكثر تضرراً في شمال ولاية راخين بميانمار. ويقدر أن 66,000 من الروهينغا قد فروا من البلاد منذ التاسع من تشرين الأول/أكتوبرالماضي. وقالت رافينا شمدساني، المتحدثة باسم مفوضية حقوق الإنسان، إن تقرير حقوق الإنسان في ميانمار يتحدث عن اغتصابات جماعية وعمليات قتل لمسلمي الروهينغا، بمن في ذلك أطفال رضع وصغار فضلاً عن الضرب الوحشي وغير ذلك من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، والتي ارتكبتها قوات الأمن في ميانمار في ولاية راخين. كما أن عمليات خطف الأطفال والفتيات أصبح أمراً روتيناً.
وأضافت أن «من بين نحو 100 امرأة تمت مقابلتهن، أكثر من نصفهن تعرضن للاغتصاب أو غيره من أشكال العنف الجنسي». ومن بين القصص التي رواها هؤلاء للمحققين، ما حدث من انتهاكات مروعة ضد أطفال تتراوح أعمارهم من ثمانية أشهر إلى ست سنوات، بعضهم ذبحوا بالسكاكين أو تعرضوا للقتل الوحشي.
لا مجلس الأمن اجتمع لهذه الجرائم ولا الجمعية العامة ولم تتحرك الدول ولم تعرض على السلطات الملايين لوقف المذابح. فكيف لنا أن نصدق أو نثق بما يسمى بـ»المجتمع الدولي» الذي ما انفك العرب يعولون عليه لإنصافهم في فلسطين.
د. عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي