يواصل الرئيس دونالد ترامب نقض إرث أسلافه الجمهوريين والديمقراطيين الذين سبقوه إلى البيت الأبيض، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ووقع على عدد من “القرارات التنفيذية” بهذا الشأن، وإن كان بعضها يرتكز على أرضية قانونية واهية، وهذا ما حدث لقراره المتعلق بحظر السفر من 7 دول ذات أغلبية مسلمة.
ولكنه قطعا يريد إعادة النظر بمسلمات قديمة تحكمت بالعلاقات الدولية للولايات المتحدة بدءاً من مفاهيم التجارة الدولية الحرة التي كان يبشر بها الحزب الجمهوري، إلى إعادة صياغة العلاقة مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي يريدها أن تساهم أكثر في إنفاقها العسكري، وانتهاء بمحاولة بناء علاقة خاصة، ربما يريدها حتى أن تكون حميمة مع روسيا الاتحادية التي كانت قلب الامبراطورية السوفياتية قبل انهيارها منذ أكثر من ربع قرن.
هذه العلاقة الجديدة مع روسيا تخيم بظلالها الثقيلة الآن على الحياة السياسية في واشنطن بسبب الدور الروسي في الانتخابات الأميركية لصالح الرئيس ترامب حيث تسببت هذه العلاقة بسقوط أول ضحية في إدارة ترامب، أي استقالة مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين، الذي أجرى اتصالات مع السفير الروسي في واشنطن خلال العملية الانتقالية، وناقش معه العقوبات التي فرضها الرئيس السابق باراك أوباما (في اليوم ذاته) وضلل نائب الرئيس مايك بينس وغيره من المسؤولين حين نفى أن يكون قد أثار مسألة العقوبات.
والآن جاء دور قلب المسلمات والبديهيات المتعلقة بالنزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بما فيها المفاهيم والمبادئ التي تحكمت بعملية المفاوضات بين العرب وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد للسلام وتحديدا منذ اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وأبرزها مفهوم “حل الدولتين” أي إقامة دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1967 بعد إدخال تعديلات متفق عليها وتبادل للأراضي بين الطرفين، على أن تعيش بسلام مع إسرائيل.
وخلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع زائره رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، قوض ترامب بعض هذه المسلمات وتحديدا حل الدولتين وتحدث بطريقة اعتباطية وبارتجال كما يفعل عادة حتى خلال مناقشة قضايا بالغة الخطورة ومؤكدا أنه لم يعد ملتزما بهذا المفهوم، وأنه سيترك الأمر للطرفين: “أنا أنظر إلى حل الدولتين، وإلى حل الدولة الواحدة، ويعجبني الحل الذي يعجب الطرفين” وتابع: “وأستطيع أن أتعايش مع أي من الحلين”. هذا الجواب الاعتباطي جاء رداً على سؤال عما إذا كان ترامب مستعداً للتخلي عن حل الدولتين وما إذا كان مستعداً للاستماع إلى مقترحات أخرى من نتنياهو. وكرر ترامب رغبته في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، قائلاً: “ننظر الى هذا الأمر بقوة وبدقة كبيرة”. وناشد ترامب نتنياهو قائلاً: “أود أن أراك تكبح المستوطنات قليلاً”. وكان مسؤول أميركي قد قال في إيجاز خلفي للصحافيين عشية وصول نتنياهو الى واشنطن إن البيت الأبيض لم يعد ملتزما بمفهوم حل الدولتين، وإن أي حل يتوصل إليه الطرفان سيكون مقبولا، مضيفا “ليس مطلوبا منا أن نفرض تلك الرؤية” (حل الدولتين).
وبما أن نتنياهو كان قد اضطر لقبول حل الدولتين لفظيا بسبب ضغوط أوباما، فقد رأي في موقف ترامب فرصته لتحرير نفسه من مفهوم حل الدولتين مدعيا أن مثل هذه العبارات هي مجرد تسميات لا تعني الكثير، ولكنه اعتمد المواقف المتشددة لشركائه في الائتلاف الحكومي وتحدث وكأنه لم يقبل أبدا حل الدولتين، ثم انتقل لوضع شروطه للتسوية مثل اعتراف الفلسطينيين بالدولة اليهودية وأن يتوقفوا عن الحديث عن تدمير إسرائيل. ولم يترك نتنياهو أي شك أنه يرغب بتعزيز سيطرة الاحتلال، مشددا على أن الفلسطينيين يجب أن “يقبلوا سيطرة إسرائيل على كامل المنطقة غرب نهر الأردن، لضمان عدم قيام دولة إرهابية إسلامية متطرفة”. وفي إشارة ضمنية أن الاحتلال باق ذّكر نتنياهو جمهوره بأن تاريخ اليهود واسمهم مرتبطان بمنطقة يهودا في إشارة إلى الضفة الغربية.
ولم يوضح ترامب ما عناه بكلامه العام والمبهم أو الأسباب التي دفعته لاتخاذ مثل هذا الموقف ولم يعط الانطباع أنه يدرك مضاعفات هذا التحول في الموقف الأميركي، الذي ستتردد مضاعفاته السلبية لأشهر وسنوات ربما واكتفى بتكرار كلام عام مثل “أعتقد أننا سنتوصل إلى صفقة، قد تكون أفضل مما يتوقعه الناس”، الأمر الذي رحب به نتنياهو قائلاً إنه يفضل التوصل إلى صفقة ذات مضمون، على الحديث عن التسميات في التفاوض مع الفلسطينيين.
ويعمل صهر ترامب جارد كوشنر الذي أناط به ترامب مهمة إحياء المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية والذي يفتقر الى أي خبرة سياسية والمعروف بدعمه لسياسة الاستيطان الإسرائيلية، على وضع صيغة تشمل تجنيد الدول العربية التي تتعاون علنا وسرا مع إسرائيل في التصدي للنفوذ الإيراني، ولإقناع الفلسطينيين بالعودة إلى طاولة المفاوضات. ولكن لا توجد هناك أي مؤشرات بأن هذه “الاستراتيجية” ستنجح اليوم، لأنها لم تنجح حين استخدمها رؤساء أميركيون قبل بدء موسم الانتفاضات العربية التي تحول بعضها إلى حروب أهلية تستأثر الآن باهتمام ومخاوف الدول العربية. هذه الاستراتيجية تفترض أن العداء لسياسات إيران في إسرائيل وبعض العواصم العربية كافية لجذب الفلسطينيين إلى التعاون مع إسرائيل، ولكن كيف يمكن لسياسة خوف من إسرائيل أن تؤدي الى نتائج مقبولة، وخاصة إذا بقي الاحتلال، واستمر الاستيطان الإسرائيلي.
ما نستطيع أن نقوله بثقة هو أن ترامب لن يحول هذا النزاع إلى قضية محورية في ولايته كما فعل قبله رؤساء مثل جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وباراك أوباما. مناشدة ترامب لنتنياهو لوقف الاستيطان لفترة قصيرة كانت نتيجة الإحراج الناجم عن قرارات نتنياهو بناء مستوطنات جديدة، اعتقادا منه أن ترامب لن يحتج أو ينتقده كما كان يفعل باراك أوباما.
وتخلى ترامب عن حل الدولتين، إضافة إلى أنه غير مستعد أو غير مهتم لأكثر من سبب للعب دور مباشر في أي مفاوضات يمكن أن تحدث بين الطرفين، كلها عوامل سوف تصب في مصلحة سياسات نتنياهو الاستيطانية وتفكيك ما تبقى من اتفاقيات بين الطرفين. وإذا أصر ترامب على التعامل مع هذا النزاع بمثل هذا الأسلوب، وإذا بقي في الحكم لأربع سنوات، عندها سيقلب بالفعل كل المسلمات التي عهدناها بشأن هذا النزاع، وسوف يساهم مع نتنياهو بخلق نظام فصل عنصري (أبارتايد) على الأرض لا أحد يعلم بحجم المآسي التي سيجلبها على الطرفين.
هشام ملحم
العربية