سوّغت هاتان المهمتان، بترابطهما، تعبئة إيران قطاعات شيعية عربية تبنّت نظرية ولاية الفقيه وتنظيمها وتمويلها وتسليحها، مع إعطاء أولوية خاصة للعراق ولبنان. الأول، بسبب حجم مسلميه الشيعة وتاريخية العلاقة بين النجف وقم. والثاني، بسبب مجاورة شيعته فلسطين. هذه السياسة مزدوجة الاستخدام التي تدمج المهمتين إحداهما في الأخرى، طبقا لحاجات إيران، وما تتطلبه مصالحها، اعتبرت تصدير الثورة، بما تمثله من اختراق للبلدان العربية شرطا لازما لتحرير فلسطين الذي يحتم دمج القوى الشيعية المحلية مع تشكيلات إيران العسكرية المقابلة لها، لقيامها بالمهام التي تكلف بها داخل بلدانها، وكأنها جزء تكويني من الجيش الإيراني، يرابط في البلد العربي المعني. يتخطى دوره الشؤون العسكرية والأمنية إلى دور اجتماعي، يضمن ولاء الكتل الشعبية الشيعية له، لضرورة ربط حاجاتها اليومية وحياتها بمؤسسات إيران الموازية أو المماثلة، الناشطة في أطر محض عسكرية وأمنية.
تلازمت هذه التطورات مع ترسيخ انقلاب حافظ الأسد في سورية الذي كان أول رئيس عربي عقد تحالفا على مستوى الدولتين، السورية والإيرانية، أحدث تبدلا جوهريا في علاقات دول المنطقة العربية ببعضها، وبينها وبين إيران، وغطى مذهبيته برطاناتٍ سياسيةٍ قوميةٍ في دمشق وطهران، جعلت القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين مركز خطابها، ونقلتنا من وعد التحرير العربي المحتجز إلى حال عماءٍ بلا ضفاف، أسموها حلف “المقاومة والممانعة“، الذي سرعان ما ضم حركاتٍ وأحزابا انخرطت في خطط الدولتين، التي قامت على مزيجٍ من رهانات علنية وسرية، غطت تنفيذيا المجالين العربي والإسلامي. وأفادت من نقاط ضعفهما، وحاولت وضع أيدي المتحالفين على قضاياهما ذات التأثير المعنوي الواسع شعبيا، وجعلها ذريعةً لإطلاق خطاب تحريري، أريد به حجب دور الأسد في تضييع الجولان، وامتناع نظامه عن العمل لإقامة شروط تحريرها الوطنية والقومية، وفي الوقت نفسه، لاستغفال العرب واختراق أوطانهم ودولهم.
بعد عام 1982، جسد حزب الله اللبناني التنظيم/ النموذج الذي قيّض له أن يلعب دورا رئيسا
لتنفيذ هذا التوجه الاستراتيجي الإيراني/ الأسدي، المزدوج الاستخدام، وليس من قبيل المصادفة أن تأسيس الحزب تم بالتعاون بين مخابرات حافظ الأسد وفيلق القدس بقيادة قاسم سليماني. لذلك، وضع تحت إشراف أجهزة أمن البلدين، وزود بكل ما احتاج إليه من مالٍ إيراني وسلاح أسدي، بينما مكّنه احتلال لبنان أسديا/ إيرانيا من إنجاح أولى المهام التي كلف بها: القضاء على “حركة المقاومة الوطنية اللبنانية” التي كانت قد شكلتها أحزاب وطنية وتقدمية لبنانية، مؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية/ مقاتلة للصهيونية، وسقط مئات الشهداء والجرحى والأسرى من مناضليها، لكن “حلف الممانعة” بدأ بإزالتها من الساحة، لتمكين الحزب من الانفراد بساحة الجنوب، وخوض صراع متقطع ضد الاحتلال الإسرائيلي مناطق تعادل 12% من مساحة لبنان، كان قد استولى عليها بالتلازم مع غزو الجيش الأسدي لبنان بذريعة “حمايته أرضا وشعبا” التي برّر بها حربه ضد المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، ونسيها حين غزا العدو الإسرائيلي الجنوب ووصل إلى نهر الأولي، في عمليةٍ أخذت صورة اقتسام للبنان، أيدتها أميركا مقابل تعهد الأسد بقصر حربه على منظمة التحرير باعتبارها عدواً مشتركاً. يفسر هذا شن إسرائيل آلاف الغارات الجوية والبرية والبحرية ضد قوات المنظمة في لبنان، من دون أن تصيب جنديا أسديا واحدا، “مقاوما وممانعا”، وكيف تصيبه إن كان الأسد قد أرسل 35 ألف عسكري إلى لبنان، من دون أن يصل عسكري واحد منهم إلى جنوب الأولي، لـ”حماية لبنان أرضا وشعبا” من إسرائيل. يرجع ذلك إلى اتفاقه مع تل أبيب على غزوه لبنان، واعتبار المنظمة الخطر الوحيد على وحدة لبنان أرضا وشعبا.
بعد تأسيس حزب الله، تطور تعهده إلى تحكم أسدي به، استخدمه أداة استعان بها، ليوهم السوريين بأنه يخوض معركة تحرير الجولان في لبنان، بدعم من دولة شقيقة هي إيران التي تتفانى في تحدي العدو، وتتقدم إلى ميدان المعركة، بينما يختبئ العرب وراء أصابعهم، ويحجمون عن مساعدة النظام على استرداد أرضه المحتلة من العدو الإسرائيلي، ناهيك عن تحرير فلسطين: رهان إيران الأول.
تعزّز تصدير الثورة بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وتسليمه لإيران وأتباعها، وتخلق محورٌ شيعي مركزه كتلة طهران/ بغداد/ ودمشق، وجناحاه البعيدان في مزار الشريف الأفغانية وجنوب لبنان المتوسطي. بعد العراق، انقلب حضور إيران في سورية إلى حضور دمجي/ احتلالي، خصوصا بعد تنصيب الحرس الجمهوري بشار الأسدرئيسا لدولةٍ، كانت تزداد ارتباطا بطهران، على الصعيدين العقائدي والمذهبي. لذلك، وما أن قامت الثورة ضده، حتى أصدر المرشد أمرا إلى حسن نصر الله بإرسال حزب الله، محرّر فلسطين المزعوم، إلى سورية، لتحريرها من شعبها وحماية “ملا القرداحة” العلماني، مندوبها السامي في دمشق الذي يغطي منصبه هوية نظامه المذهبية/ العقدية، المحمية من خلال ربط سورية ب ـ”المركز الإمامي” في طهران وذراعه الطائفي اللبناني، لربط سيطرته بتمكين إيران من استخدامها تحقيق أي هدفٍ تريده، وللإفادة من قدرته على خططها لإنهاك العالم العربي واختراق بلدانه، وخصوصا الخليجية منها، بينما يعرّضها التصدي لإسرائيل إلى انهيارٍ، يطاول وجودها في عموم المشرق، وربما داخل إيران نفسها. والآن: إذا لم يكن تدمير العالم العربي هدف إيران الاستراتيجي، ما معنى تصريحات كبار مسؤوليها السياسية والأمنيين حول تبعية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء لهم؟ … وماذا عن تحرير فلسطين أيها السادة؟ هل كانت وظيفته تغطية تصدير الثورة إلى المشرق والخليج وشرق وشمال إفريقيا؟ ألم تستخدمه لشن الحرب على الشعوب العربية، وخصوصا منها الواقعة على محور مزار الشريف/ جنوب لبنان التي اتهمت طهران معظم شعوبها بالأصولية والتكفير، وغزتها بالتعاون مع مرتزقةٍ متنوعي الجنسيات، وبطشت بكتلها الكبرى واستبدلت سكانها بأغراب استجلبتهم من أفغانستان وأوزبكستان وبنغلادش وإيران والعراق ولبنان واليمن و… و… إلخ؟
والآن: هل للقتال من أجل بشار اعتباراتٌ تمليها مصالح سياسية أم أن الشراكة المذهبية/
الطائفية مع إيران هي التي تمليه؟ إذا كان قادة “المركز الإمامي” في طهران يقولون بلا خجل: سورية هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، وإنهم يدافعون فيها عن آل البيت، ويمنعون سبي زينب مرة أخرى، وأن مسلحيهم ينشدون أغاني تعد بتطهير مكة، وقتل أهلها، ماذا يبقى من معنى للسياسة؟ ولماذا لا تعامل إيران دولة تقوّض العالم العربي، كما لم يفعل حتى الاستعماريون والصهاينة؟ وإذا كان عدد قتلى “حرب تحرير فلسطين” التي شنها حزب الله والحرس الثوري والجيش الإيراني وفيلق القدس لم يتعد عشرات قليلة من جنود إسرائيل، طوال خمسة وثلاثين عاما، وكان هؤلاء مجتمعين قد قتلوا مئات آلاف الشهداء، وجرحوا وشوهوا وسجنوا وغيبوا وقتلوا تحت التعذيب وهجّروا ورحلوا وحاصروا وجوعوا ملايين السوريات والسوريين خلال أقل من ستة أعوام ، من أجل حماية “ملا دمشق” من شعبه، فعن أي تحريرٍ لفلسطين والجولان، وأي إخاء إسلامي تتحدث طهران؟
استخدمت إيران “تحرير فلسطين” لتصدير ثورتها المذهبية إلى شعوبٍ ترفضها، وخاضت حربا شاملة تدثرت بالإسلام، أقدس مقدسات العرب، للالتفاف على وعي المؤمنين والغدر بهم، ولربط مصيرهم بها، وتقويض انتمائهم القومي، لإيمانها بأن لفشلها نتائج تمسّ بقدرة عقيدتها على حفظ دولتها، وتفضي إلى نجاة العرب من صراعاتٍ وحروبٍ مذهبيةٍ تريد زجّهم فيها، لا مصلحة لهم في وقوعها، ولم يكونوا يوما طرفا فيه، ويعتقدون أن انبعاثها المتجدّد لن يكون غير كارثةٍ تحل بهم، ما دام تجييش المسلمين بعضهم ضد بعض لا يخدم غير العدو الإسرائيلي وواشنطن، فهل هذا هو دور إيران؟
بانكشاف سياساتهم كفاعلية تغطي سعيهم إلى تدمير جوارهم بالمذهبية المسلحة، يضع الملالي إيران، شقيقة العرب التاريخية، في تناقضٍ قاتل معهم، ويسهمون بتدمير ما لم يدمّر بعد من بلدانهم في الخليج، وخصوصا منه السعودية. واليوم، وقد كادت سياسات طهران تبلغ نهاية شوطها، في زمن تقومنت وتعلمنت سياساته ومصالحه، ويستحيل ردّه إلى ماضٍ زال وانقضى، مهما غطته بألاعيب سياسية المظهر، تدرك دول المنطقة ومعظم دول العالم أن إفشال سعي إيران إلى إحياء رميم المذهبية شرط لازم لإنقاذ الأمة العربية وحضارتها، ومجمل حضارة البشر.
ميشيل كيلو
صحيفة العربي الجديد