كان الهجوم الكيماوي الذي وقع مؤخراً على مدينة خان شيخون السورية التي يسيطر عليها متمردون سبباً في إرغام الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ضرب قوات الرئيس السوري بشار الأسد لأول مرة. وبقصف قاعدة الشعيرات الجوية في غرب سورية، تورطت إدارة ترامب في فراغ السلطة المتنامي في الشرق الأوسط. ولكن، ماذا قد يكون تحرك ترامب التالي، إن كان هناك أي تحرك تال من الأساس؟
الواقع أن تدخل ترامب غير المتوقع، الذي يأتي بعد ست سنوات من الحرب الأهلية التي بلغ عدد ضحاياها 400 ألف قتيل بين المدنيين، فضلاً عن نزوح الملايين، كان موضع إشادة من قِبَل أغلب الساسة في الولايات المتحدة، على الرغم من تنفيذه دون الحصول على الموافقة الضرورية من الكونغرس. كما رحبت جماعات المتمردين السوريين وحلفاء أميركا الدوليون (بما في ذلك أولئك الذين شاركوا في اجتماع وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الذي اختتم أعماله مؤخراً في إيطاليا) بهجوم الولايات المتحدة على القوات الحكومية السورية.
باستخدام 59 صاروخاً من طراز توماهوك، بعث ترامب برسالة إلى نظام الأسد ورعاته، وخاصة روسيا وإيران، مفادها أنه على النقيض من سلفه باراك أوباما عازم على فرض “الخطوط الحمراء”. ومن غير المستغرب أن يدين كرملين فلاديمير بوتن الهجوم الأميركي، مدعياً أنه شكل انتهاكاً للقانون الدولي -وهو اقتراح مريب، خاصة وأن سورية من الدول الموقعة على المعاهدة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية.
ولكن، أياً كانت الرسالة المقصودة من قرار ترامب، فيبدو أن مصيرها كان الغرق تحت ثرثرة وهذيان إدارته لاحقاً، على نحو يدل على عدم الاتساق الاستراتيجي. ففي حين اقترح نيكي هالي، سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، أن خلع الأسد أصبح الآن من الأولويات، يُصِر وزير الخارجية ريكس تيلرسون على أن إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هو الذي يظل يتصدر الأجندة الأميركية. والأمر الأسوأ أن القرار الذي اتخذه ترامب بالتحرك عسكرياً جاء، كما أفادت التقارير، متأثراً بابنته إيفانكا التي زعمت أن صور ضحايا الهجمات الكيميائية “سحقت فؤادها وصدمتها”.
إن التصرفات الانفعالية المتهورة التي تحركها مشاعر شخصية ليست بديلاً للسياسة الخارجية المراعية للأمد البعيد. وكان الافتقار إلى نهج واضح وشامل هو الذي سمح لروسيا بغرس نفسها في قلب الصراع السوري في المقام الأول. فمن منظور بوتن، خلق عزوف أوباما عن التدخل فرصة ذهبية لفتح بوابة الدخول إلى الشرق الأوسط.
ليس هدف بوتن في المنطقة هو إحداث تأثير إيجابي بعيد الأمد. إنه يريد إقحام روسيا بين قوى فاعلة مختلفة تفتقر إلى السياسات المتماسكة في التعامل مع بعضها بعضاً، وبالتالي تعزيز قوة روسيا وهيبتها. ومثله مثل أي عميل جيد للاستخبارات السوفياتية، يلعب بوتن على كل الأطراف، سعياً إلى تعزيز أجندته الخاصة. وبالفعل، بدأ نوع جديد من حلف وارسو في التشكل.
كجزء من هذه اللعبة الاستراتيجية، عملت روسيا على زيادة النفوذ الذي تمارسه على أقرب حلفاء أميركا، إسرائيل. ففي العام الفائت وحده، عقد بوتن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خمسة اجتماعات، وكانا حريصين على تعميق العلاقات الثنائية. وتحت وطأة العقوبات المفروضة على روسيا بعد قيامها بضم شبه جزيرة القرم، يتطلع بوتن إلى قطاع التكنولوجيا في إسرائيل لتوفير ما لم يعد الغرب يوفره. ومن جانبها، تأمل إسرائيل أن تساعد روسيا في كبح جماح إيران. وخلافاً لبعض تصريحات نتنياهو المعلنة، لا تعارض إسرائيل تدخل روسيا في سورية؛ فهي ترى أن الأسد أقل شراً من دولة فاشلة تحكمها الفوضى، كحال ليبيا بعد الإطاحة بالعقيد القذافي في العام 2011.
كما يُحرِز بوتن تقدماً في العراق أيضاً. ففي العام الماضي، أرسل الكرملين أكبر وفد منذ سنوات عديدة -أكثر من مائة مسؤول- إلى بغداد لتعزيز العلاقات التجارية والأمنية. وقد ركزت التبادلات التي نشأت عن ذلك على المساعدات العسكرية إلى حد كبير، وإن كان بوتن خطب أيضاً ود سفير العراق الجديد إلى روسيا، حيدر منصور هادي، بحديثه عن إمكانية التعاون في قطاع الطاقة.
ثم هناك أفغانستان، حيث سعت روسيا إلى إقامة علاقة قابلة للاستمرار مع طالبان، في تكرار لسلوك الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين. فمن خلال التودد إلى طالبان، يساعد بوتن في زعزعة استقرار الحكومة الضعيفة مسبقاً في كابول، ويجعل نفسه طرفاً لا غنى عنه في أي استراتيجية تسعى بها الولايات المتحدة إلى الهروب من أطول حرب تخوضها في تاريخها كله.
في مصر أيضاً، تحاول روسيا استعادة نفوذها الذي كان في الحقبة السوفياتية. وقد صادفت بعض النجاح مع الرئيسي المصري عبد الفتاح السيسي الذي يحترم نموذج حكم الرجل القوي الذي يمثله بوتن، والذي يضع أيضاً نصب عينيه المصلحة القوية المتمثلة في إعادة بناء صناعة السياحة في مِصر -وهو جهد تستطيع روسيا أن تساهم فيه.
قبل أن يفجر الإرهابيون طائرة تحمل سياحاً من الروس فوق سيناء في العام 2015، كان الروس يشكلون نحو 30% من زوار مِصر. وفي حين أعادت روسيا مؤخراً خدمة الرحلات الجوية التجارية إلى البلاد، فقد أثار التفجيران الانتحاريان اللذان استهدفا كنيستين قبطيتين في أحد الشعانين (أحد السعف) الشكوك في مصداقية وعد السيسي بتوفير الأمن.
في واقع الأمر، تتيح المشاق التي تكابدها مِصر لبوتن مزيداً من الفرص لتقديم يد المساعدة. وقد حصلت روسيا مُسبقاً على الإذن بتوسيع منطقتها الصناعية الخاصة في بورسعيد، كما وقعت الحكومة المصرية على عقود بقيمة مليار دولار لشراء معدات عسكرية روسية، بما في ذلك أنظمة صاروخية. وعلاوة على ذلك، أعطت مِصر لروسيا إمكانية الوصول إلى قواعد جوية لنشر قوات خاصة في ليبيا دعماً للجنرال خليفة حفتر، أمير الحرب الذي يدعمه بوتن.
لا تقوم سياسة بوتن الخارجية على استخدام القوة الروسية، بل على الاستفادة من نقاط ضعف الآخرين. وربما يبدو كسب ولاء أنظمة فاشلة من خلال التعهد بدعمها استراتيجية ناجحة، ولكن البيت الذي يبنيه بوتن مصنوع من ورق. ولا تمتلك روسيا الثروة أو القوة العسكرية اللازمة لدعم الأنظمة الفاشلة إلى ما لا نهاية. ولا بد أن يدرك بوتن هذه الحقيقة. ومن المؤكد أن تيلرسون يدركها أيضاً.
خلال زيارته إلى موسكو في الفترة الأخيرة، يبدو أن تيلرسون أوضح أن علاقات روسيا مع الولايات المتحدة سوف تزداد تدهوراً إذا استمر بوتن في جعل نفسه جزءا من المشكلة في الشرق الأوسط. ولأن بوتن يحترم القوة، ويريد أن تتعامل معه الولايات المتحدة نِداً لند، فإنه ربما يقتنع بأن يصبح جزءاً من الحل.
مع انحدار العلاقات الثنائية إلى مثل هذا المستوى المتدني، يدعو اتفاق الجانبين خلال زيارة تيلرسون إلى إنشاء مجموعات عمل لتحسين العلاقات بين البلدين إلى بعض التفاؤل. بيد أن إقناع بوتن بالانتقال إلى الجانب “الصحيح” في سورية في الأمد البعيد يستلزم أن تقدم إدارة ترامب حلاً حقيقياً -وهو ما لم تُثبِت امتلاكها له حتى الآن.
*مؤلفة كتاب “تخيل نابوكوف: روسيا بين الفن والسياسة” و”خروشوف الضائع: رحلة إلى كولاغ العقل الروسي”. وهي أستاذة الشؤون الدولية وعميد مساعد للشؤون الأكاديمية في المدرسة الجديدة، وزميلة رفيعة المستوى في معهد السياسات العالمية.
نينا خروشيفا
صحيفة الغد