على مدار أربعة عقود، نما إلى مسامع أبناء طهران كثير من الشعارات الغريبة التي ترددت أصداؤها في شوارعهم لدرجة جعلتهم محصنين ضد الشعور بالدهشة حيال أي شعارات جديدة. ومع ذلك، لم يملك كثير من أبناء العاصمة الإيرانية سوى الشعور بالدهشة لدى سماعهم مجموعة من الشباب، حرص كل واحد منهم على إطلاق اللحية بالصورة المناسبة، يرددون: «السفارة الروسية عش الجواسيس!».
كانت عبارة «عش الجواسيس» قد أطلقها للمرة الأولى آية الله الخميني عام 1979، واصفًا بها السفارة الأميركية التي تعرضت للاجتياح والقبض على الدبلوماسيين العاملين بها رهائن من قبل من أطلق عليهم «طلاب يسيرون على نهج الإمام». وترتب على ذلك أزمة بين طهران وواشنطن استمرت 444 يومًا حرض عليها في هدوء عملاء للاستخبارات السوفياتية السابقة (كيه جي بي) داخل طهران من خلال «حزب توده» (الشيوعي) والجماعات اليسارية المرتبطة به في محاولة لدفع الولايات المتحدة خارج إيران.
في ذلك الوقت، لم يخطر ببال أحد أنه سيأتي يوم يصبح الدور فيه على السفارة الروسية لتحمل هذا الوصف، وذلك على الرغم من أن ثمة تاريخا طويلا داخل إيران فيما يتعلق باقتحام السفارة الروسية. على سبيل المثال، عام 1829، هاجمت مجموعة من الغوغاء بقيادة ملالي، السفارة القيصرية لإطلاق سراح اثنين من الإماء من جورجيا فرتا إلى السفارة طلبًا للملاذ. وألقي القبض على السفير الروسي ألكسندر غريبايدوف وصدر ضده حكم بالإعدام بناءً على فتوى، وبالفعل قطع رأسه. (في الواقع، كان غريبايدوف أكبر من مجرد سفير، فقد كان شاعرا وكاتبا مسرحيا ذائع الصيت).
بالطبع، من غير المحتمل أن يسمح النظام لأي شخص اليوم باقتحام السفارة الروسية واحتجاز الدبلوماسيين بها بصفتهم رهائن. ومع ذلك، بدت مشاعر الغضب التي عبرت عنها الحفنة القليلة من المتظاهرين حقيقية تمامًا.
وهنا يظهر التساؤل: لماذا تحولت السفارة الروسية إلى هدف للصورة نفسها من مشاعر الغضب التي تعرضت لها نظيرتها الأميركية منذ أربعة عقود؟
وتتزايد أهمية هذا التساؤل بالنظر إلى إطلاق «المرشد الأعلى» علي خامنئي ما وصفه باستراتيجية «التطلع شرقًا، القائمة على بناء تحالف بين طهران وموسكو». واللافت أن هذه الاستراتيجية تشكل انتهاكا واضحا لشعار الخميني الشهير: «لا شرقي ولا غربي». وقد أصر الخميني على أنه إذا لم تتحول روسيا إلى الإسلام، فإنه ينبغي لها ألا تنتظر معاملة مختلفة من جانب إيران عن أي قوة «كافرة» أخرى. (وقد بعث آية الله بالفعل خطابا رسميا إلى الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يدعوه خلاله إلى اعتناق الإسلام على المذهب الشيعي).
ومع ذلك، وافق خامنئي في أعقاب اجتماع قمة استمر أربع ساعات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عامين على أن الجمهورية الإسلامية لن تتخذ أي موقف حيال قضايا دولية كبرى دون «التنسيق» مع موسكو.
وسرعان ما تحول هذا الاتفاق إلى أرض الواقع في سوريا، حيث وفر بوتين غطاءً جوياً لتحالف من قوى جمعتها طهران حول الرئيس المحاصر بشار الأسد.
وبالفعل، اضطلع بوتين بدور محوري في إعفاء إيران من إجراءات خفض إنتاج النفط في ظل اتفاق بين «أوبك» والدول المنتجة من خارجها بهدف تحقيق استقرار بالأسعار.
أيضًا، رفع بوتين الحظر على بيع أنظمة صواريخ متطورة أرض – جو قالت إيران إنها تحتاجها لمواجهة أي هجوم أميركي جوي. في الوقت ذاته، بذلت موسكو كثيرا من الجهود لحماية الجمهورية الإسلامية من تقديم مزيد من التنازلات على صعيد القضية الشائكة المتمثلة في أطماعها النووية، بل وأقر إيران ضمنياً بالدور الريادي لإيران في صياغة السياسة تجاه العراق وأفغانستان.
والملاحظ أن كثيرا من العناصر داخل النظام الإسلامي تعمل لصالح بناء تحالف استراتيجي مع موسكو، منها بقايا «حزب توده» و«ميليشيا الفدائيين الشعبية» ومجموعات من النشطاء المناهضين للغرب. في الوقت ذاته، يحظى التحالف المقترح بدعم عدد من رجال الدين الأقوياء يرون أنهم بحاجة إلى الدعم الروسي في أي مواجهة مستقبلية مع الولايات المتحدة.
من جانبه، قال آية الله محمدي غولبيغاني، الذي يترأس فريق العلم الشخصي المعاون لخامنئي: «من خلال الدفاع ببسالة عن الحكومة السورية، أثبتت روسيا أنها صديق بحق».
ومع ذلك، فإنه في محاولة لتخفيف مرارة فكرة التحالف مع روسيا، القوة التي تجمعها بإيران مائتي عام من العداء والحرب، يدعي الملالي أن بإمكانهم استغلال الفرصة الراهنة لنشر المذهب الشيعي داخل الاتحاد الروسي الذي ينتمي أقل من 3 في المائة من إجمالي مسلميه البالغ عددهم 30 مليون نسمة إلى الشيعة.
وبأسلوبه المعروف، عمد بوتين من جانبه إلى تشجيع مثل هذه الأوهام، وأطلق وعودًا بالسماح إلى ملالي مدينة قم بإقامة حلقات نقاشية في موسكو لتدريب ملالي شيعة من الروس. كما أنشأ بوتين كيانا أطلق عليه «اللجنة الاستراتيجية لنشر الإسلام» بقيادة رئيس تتارستان، رستم مينيخانوف. جدير بالذكر أن تتارستان تعد الجمهورية ذات أكبر غالبية من المسلمين داخل الاتحاد الروسي.
وبعد محاولته المزعومة للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة والانتخابات الرئاسية الحالية في فرنسا، يواجه بوتين أيضا اتهامات بمحاولة القيام بالمثل داخل إيران.
في الأسبوع الماضي، بعث بوتين وفدا مؤلفا من 60 شخصا بقيادة مينيخانوف إلى مشهد، أكبر مدن إيران «المقدسة» لمقابلة آية الله إبراهيم رايسي، الذي يجري النظر إليه باعتباره أحد مرشحين اثنين أكثر احتمالاً للفوز بالرئاسة. ورافق مينيخانوف في الزيارة المفتي الأكبر لتتارستان، كميل سامي غولن، الذي صرح أمام حشد من المراسلين الصحافيين بأن بوتين يرغب في أن تعمل روسيا وإيران معًا على «تقديم الوجه الحقيقي للإسلام أمام الشباب» و«التصدي للدعايات التي تروج لها دوائر إرهابية».
وعمدت قنوات تلفزيونية فضائية تخضع لسيطرة الكرملين على تسليط الضوء على هذه الاجتماعات، مع الاهتمام برئيسي باعتباره رجل دولة يحظى بمكانة دولية.
ومع ذلك، وفي محاولة لتجنب أي خسارة محتملة، استقبل بوتين الرئيس الحالي حسن روحاني في زيارة لموسكو جرى الإعداد لها بسرعة، الشهر الماضي. ومع ذلك، يدعي بعض المراقبين أن بوتين ينظر إلى روحاني وفصيله باعتبارهما «شديدي القرب من الولايات المتحدة». وثمة شائعات تفيد بأن بعض الأعضاء البارزين في إدارة روحاني حاصلون على المواطنة الأميركية أو يملكون «البطاقة الخضراء»، الأمر الذي قد يلقي بظلال الشك حول مدى استعدادهم لدعم بناء تحالف استراتيجي مع روسيا.
كما أن هناك مؤشرات توحي بأنه ليس جميع أعضاء النظام راضين عن ربط مستقبل إيران بنظام بوتين. وهنا، يأتي شعار «السفارة الروسية عش الجواسيس» كمجرد مثال بسيط على عدم الرضا هذا. ومن بين الأمثلة الأخرى سلسلة من التحقيقات الصحافية التي نشرتها وسائل الإعلام الرسمية، منها وكالة «إرنا»، حول العدوان الروسي التاريخي ضد إيران، بل وادعت إحدى هذه التحقيقات، نشرتها «إرنا»، أن الرئيس الأميركي هاري إس. ترومان عاون إيران على استعادة إقليمين من أقاليمها التي استولى عليها الطاغية الروسي ستالين عام 1946، وتناول تحقيق آخر نشرته وكالة أنباء مقربة من الحرس الثوري الإسلامي التاريخ «المخزي» لفصائل موالية لروسيا داخل إيران بدءا من القرن الـ19.
وثمة مقولة فارسية قديمة تقول إن روسيا دب ضخم يمكنك الإعجاب به من بعيد، لكن إذا احتضنك، فإن بمقدوره سحقك.
أمير طاهري
صحيفة الشرق الأوسط