يبدو أن روسيا صاعدة جديدة في الشرق الأوسط. في الثمانية عشر شهرًا الماضية، قامت موسكو بإدارة الدفّة في الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ ست سنوات، مما عزز حليفها الرئيس بشار الأسد، الذي سرعان ما جعل نفسه حاكمًا رئيسيًا لشؤون المنطقة.
شهد هذا الشهر دلائل على تدخل روسي جديد مُحتمل في ليبيا؛ لدعم القائد العسكري خليفة حفتر، في أعقاب نشر القوات الخاصة الروسية في غرب مصر. في وقت يُنتظر فيه فك الارتباط الأمريكي بالمنطقة، إلى جانب انتقال صخري غير عادي للسلطة في واشنطن، يُثير دور روسيا المتزايد أسئلة مهمة حول مصالح موسكو وقدراتها في الشرق الأوسط، وما إذا كان من المرجح أن تنجح مقامرة روسيا.
تشير الدلائل الأخيرة إلى أن جزءًا كبيرًا من نشاط روسيا يُمكن أن يعود إلى شواغل أمنية وطنية تقليدية حقيقية، وليس مجرد رغبة قصيرة الأجل في “إثارة المشاكل” أو صرف انتباه المجتمع الدولي عن الصراع في أوكرانيا.
ترى موسكو الشرق الأوسط، أولًا وقبل كل شيء، كمصدر لعدم الاستقرار، الذي لم تتمكن أي قوة عالمية من احتوائه بنجاح. بعد أن راقبت روسيا منذ سنوات سياسة الولايات المتحدة في المنطقة – التي تعتبرها موسكو خطرة ومُزعزعة للاستقرار – أصبحت روسيا الآن تُشكل “مديرة أمنية” بديلة في الشرق الأوسط.
لكن ما نشهده ليس تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة، فليس هناك محاولة خنق كاملة لإنشاء مجموعة جديدة من القواعد العسكرية الدائمة، أو إعادة ترك بصمة إقليمية على النمط السوفياتي. بدلًا من ذلك، كان نهج روسيا -من المرجح أن يظل- مختلفًا؛ سعيًا لتحقيق أقصى استفادة من قدراته المحدودة، من خلال تنويع نقاط الاتصال في المنطقة، والحفاظ على التكاليف منخفضة، والاعتماد بشكل متزايد على أدوات القوة العسكرية وغير العسكرية.
انصبت التصورات الغربية لمصالح روسيا في سوريا والشرق الأوسط الكبير في معسكرين عامّين، أن “روسيا تريد الفوضى” أو “روسيا تريد الاستقرار”. أول معسكر يبدو معقولًا، خاصة مع التدخل في سوريا، والذي صعّدت روسيا فيه الصراع بشكل حاد، وتركت الولايات المتحدة وغيرها من القوى مع خيارات قليلة للتدخل ضد نظام الأسد ووضع حد للمعاناة المدنية.
كما يُنتج التدخل آثارًا من الدرجة الثانية تساعد روسيا وتُضعف منافسيها. بقدر ما يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار المستمر في الشرق الأوسط إلى حدوث اضطرابات في الإمدادات في سوق النفط العالمية، فالاقتصاد الروسي سيتربح من الصدمات الإيجابية الناجمة عن الأسعار.
من خلال زيادة تدفقات اللاجئين نحو تركيا وأوروبا، تساعد روسيا أيضًا على زعزعة استقرار الحكومات الحالية في أوروبا، قبل العديد من الانتخابات الوطنية الرئيسية. على سبيل المكافأة، مكنت هذه الإجراءات روسيا من الخروج من عُزلتها الدولية، وتحويل الانتباه بعيدًا عن ضمها إلى شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا.
هذا الرأي ليس غير مُجدي تمامًا، فهناك بعض الفوائد القصيرة الأجل الناجمة عن عدم الاستقرار الإقليمي. الواقع أن العديد من المُطلعين على الكرملين ينظرون إلى سياسة واشنطن في الشرق الأوسط بالطريقة نفسها، مثل قِصر النظر والتخريب والسذاجة. من شأن هذه النظرة أن تجمع عن طريق الخطأ منافع قصيرة الأجل ذات نوايا استراتيجية طويلة الأجل. كما أنها تنطوي على حقيقة أنه على المدى الطويل سيكون من الصعب جدًا على روسيا أن تحافظ على نفسها من سياسة الشرق الأوسط المتعمدة لزعزعة للاستقرار.
يود خبراء السياسة الروسية أن يشيروا إلى أنه على عكس الولايات المتحدة، فروسيا ليس لديها محيطان يفصلانها عن بقية العالم. بهذا المعنى، يُشكل عدم الاستقرار في الشرق الأوسط تهديدًا فعليًا قريبًا لروسيا، تمامًا مثلما قد يهدد عدم الاستقرار في أمريكا الوسطى الولايات المتحدة.
أحد المحللين الروس رأى أن “روسيا على الحدود، فنحن في منطقة الجهاد، ولدينا أزماتنا الخاصة في شمال القوقاز، وآسيا الوسطى، وحتى منطقة فولجا المركزية مُهددة. لكن يبدو أن الغرب مستعد دائمًا للعب النار، واستخدام الجهاديين المُتشددين ضد روسيا ومصالحها الوطنية. كما فعلوا في أفغانستان والشيشان وليبيا وسوريا”.
أما بالنسبة للكرملين، فالتهديد الرئيسي للمصالح الروسية بطبيعة الحال يأتي من الغرب، في شكل توسع الناتو والدعم الغربي للاحتجاجات و”الثورات المُلونة” في الأقمار الصناعية السوفياتية السابقة. شاهد الكرملين الربيع العربي والانتفاضات الشعبية في مصر وليبيا وسوريا كمسرح ثانوي في “حملة زعزعة الاستقرار” بقيادة الولايات المتحدة.
في الوقت الراهن، تمكنت روسيا من احتواء هذا التهديد جزئيًا على الجبهة الغربية. مع استمرار الصراعات الانفصالية في أوكرانيا وجورجيا، فتمديد عضوية الناتو إلى هذه الدول سيكون مثل بيع التأمين إلى منزل محترق.
كما ترى موسكو تباطؤًا محتملًا في الزخم الثوري في أوروبا الشرقية، حيث تقع القيادة السياسية الأوكرانية الموالية للغرب في أنماط مألوفة من الفضيحة والفساد، ويحتل مزيد من القادة الصديقين لروسيا الصدارة في المجر ومولدوفا وبلغاريا.
بعد أن وجدت موسكو بعض مساحات التنفس في الغرب دون إثارة رد عسكري من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ترى الآن فرصة سانحة لعكس المد الثوري في الشرق الأوسط، وتعزيز الأنظمة الودية التي تواجه التمرد المسلح، وتأمين الجناح الجنوبي.
لم يكن من السهل لروسيا تقديم الطاقة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. حتى في ذروة السلطة السوفياتية، واجهت موسكو قيودًا شاقة على إيجاد موطئ قدم عسكري هناك.
اقتصرت اتفاقية مونترو عام 1936 على مرور السفن الحربية عبر مضائق الدردنيل التركية إلى البحر الأبيض المتوسط، مما يتطلب زيادة عناصر أسطول البحر الأسود من قِبل وحدات من الأساطيل الشمالية والبلطيق على بعد آلاف الأميال.
هذه المسافات المُتعبة أجبرت السفن السوفياتية على الإبحار في جميع أنحاء أوروبا الشمالية ومن خلال جبل طارق ونقاط الاختناق المتعددة الأخرى التي يسيطر عليها حلف شمال الأطلسي. تفاقم الأمر مع فرض قيود دورية على دخول نظم الاتحاد السوفياتي، ولا تزال هذه القيود نفسها قائمة اليوم، وروسيا في وضع أضعف بكثير من ذي قبل.
لكي يصبح بوتين وسيطًا في الشرق الأوسط، تواجه روسيا عقبة أساسية تتمثل في إدارة “سياسة خارجية عُظمى” مع ناتج محلي إجمالي بحجم إيطاليا. هناك عدم تطابق واضح بين أهداف موسكو الطموحة ووسائلها المحدودة. تفهم القيادة الحالية لروسيا أن بلادها ليست في موقف يسمح لها بالتحدي المباشر للولايات المتحدة، ناهيك عن أن تحل محلها كمدير رئيسي للأمن في المنطقة. كقوة إقليمية “مغرورة”، كان نهج روسيا مختلفًا، ومن المرجح أن يظل هكذا.
العنصر الأول من هذه الاستراتيجية هو تنويع نقاط الاتصال في المنطقة. علم الاتحاد السوفيتي صعوبات إنشاء قواعد عسكرية دائمة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبدلًا من تعميق علاقاتها مع حليف واحد (مثل الأسد في سوريا)، اختارت موسكو توسيع نطاق وصولها إلى جهات فاعلة إقليمية متعددة.
في هذا السياق، اشتملت رسالة التسويق الروسية على جانبين. الأول نحن على استعداد لإيجاد أرضية مشتركة مع أي شخص يقاتل ضد داعش وغيرها من الجماعات السنُية المتطرفة. الثاني هو أن تعاوننا الأمني غير مشروط باحترامك لـ “الديمقراطية” أو “حقوق الإنسان”.
حتى عندما لا تبدو موسكو قادرة على العطاء، إلا أن هذا النهج “الخالي من القيمة” أعطى روسيا قدرًا كبيرًا من المرونة، وميزة نسبية مُحتملة على الولايات المتحدة.
العنصر الثاني من هذه الاستراتيجية هو التوفير في التكاليف. حاولت روسيا -بحذر من تكرار أخطائها، وأخطاء الولايات المتحدة في العراق- أن تُبقي بصماتها العسكرية صغيرة؛ ففضلت وجود محدود وقابل للتوسع يمكن أن يتصاعد أو ينخفض كما يتطلب الوضع.
توضح العملية السورية هذا النهج، حيث سعت روسيا إلى الحد من وجودها الفعلي من القطاع الخاص وقوات العمليات الخاصة والشرطة العسكرية، إلى أقصى حد ممكن على بعد 15 ألف قدم، معتمدة على الوكلاء المحليين لتعزيز المكاسب.
حتى الطبيعة العشوائية للضربات الجوية الروسية هي شكل من أشكال توفير التكاليف. ففي حين تمتلك روسيا ذخائر موجهة أكثر دقة، تمثل هذه الأسلحة فقط 20% من الذخائر الروسية التي وُجِهَت إلى سوريا. كانت النتيجة قدرًا كبيرًا من المعاناة الإنسانية على الأرض، لكن أيضًا نسبة منخفضة إلى حد كبير من الجهد لموسكو.
بمتوسط تكلفة يومية تتراوح ما بين مليوني ونصف إلى ثلاثة ملايين ونصف دولار، أي 1.25 مليار دولار سنويًا، تمثل سوريا حوالي 2٪ من الإنفاق العسكري السنوي الروسي.
العنصر الثالث هو القوة الناعمة، وهي أداة تقليدية غير مستخدمة في ترسانة السياسة الخارجية الروسية. تنبع أهمية القوى الناعمة من الصعوبات النسبية في الاعتماد على أدوات القوة العسكرية الروسية في الشرق الأوسط. لم تكن العمليات الاستطلاعية على الطريقة السورية هي الدعوى القوية التي أبداها الاتحاد الروسي.
في حين أن روسيا قطعت أشواطًا كبيرة في مجال اللوجستيات العسكرية، إلا أن العملية السورية أدت إلى زيادة قدرات روسيا الاستراتيجية على رفع حدودها المُطلقة، مما أدى إلى بعض الحلول المبتكرة، مثل إعادة توجيه السفن التجارية التركية لنقل المعدات العسكرية الروسية إلى المسرح.
حتى لو تمكنت روسيا من التغلب على العبء الجغرافي لنشر القوات في شرق البحر الأبيض المتوسط، فهي لا تزال تواجه تحديًا يتمثل في الحفاظ على هذا الوجود وتوسيعه في “بحيرة حلف شمال الأطلسي”. باعتبارها الوافد الجديد نسبيًا إلى المنطقة، استفادت روسيا من المشاعر المُعادية للولايات المتحدة المُستوطنة في العالم العربي، وبالتالي فهي مترددة في تقويض دعايتها عن طريق ترسيخ وجودها العسكري.
هل من المرجح أن تنجح الاستراتيجية “الخفيفة” في الشرق الأوسط؟ الأدلة حتى الآن مُختلطة. من المؤكد أن شبكة روسيا المتنامية من الشركاء الإقليميين تُقلل من أهمية أي موطئ قدم عسكري أو دبلوماسي.
في حين أن هذا النقص في “قاعدة” إقليمية قد يبدو وكأنه ضعف محتمل، فهذا يجعل روسيا أقل عُرضة للصدمات السياسية الإقليمية، مثل إعادة تنظيم مصر بعيدًا عن الاتحاد السوفياتي، ونحو الولايات المتحدة بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973.
كما علّمت التجربة السوفيتية روسيا أن القواعد المحلية، مثل طرطوس في سوريا، أو يُحتمل أن تكون سيدي باراني ومرسى مطروح في مصر مًفيدة، ولكنها ليست ضرورية لتوليد القوة. بسبب عدم اليقين المرتبط بالقواعد الدائمة في الشرق الأوسط، اعتمدت البحرية السوفياتية بدلًا من ذلك على اثني عشر مرساة في الخارج مع أحواض جافة وعائمة، أغلبها في المياه الدولية، بجانب قوة دائمة من السفن المساعدة.
هذا الموقف الخفيف والمُتنقل خفض اعتماد السوفيات على العملاء العرب المحليين. تتبع الاستراتيجية الروسية الحالية لتنويع نقاط الاتصال على طول شرق البحر المتوسط نفس التقليد، وإن كان ذلك على نطاق محدود.
في الوقت نفسه، أثبتت استراتيجية روسيا “إدارة الأمن الإقليمي الخفيفة” حدودًا واضحة بالفعل. ينطلق هذا بشكل خاص في سوريا.
من الناحية العملية، تشكل سوريا نوعًا جديدًا من التحدي بالنسبة للجيش الروسي. فهي الحملة الجوية الأكثر كثافة التي شاركت فيها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، بمعدل إيقاع تشغيلي قوامه 45 طلعة جوية يوميًا بواسطة 50 طائرة.
العبء اللوجستي لاستمرار مثل هذه العملية هو أكبر بكثير من أي شيء تواجهه روسيا في الشيشان وأفغانستان، أو في صراعات أهلية سابقة مثل غرب أوكرانيا. تعقيد الصراع السوري وتعدد أبعاده عوامل أخرى تزيد التعقيد، حيث استفاد معارضو روسيا من الدعم الخارجي الواسع. كما أن المدافعين المحتملين ولاعبي الفيتو كِبار.
رغم أن الضربات الجوية الروسية كانت فعّالة في المساعدة على إزالة أراضي المتمردين، فالاعتماد على القوات البرية السورية والوكيلين المحليين غير المنضبطين نسبيًا جعل من الصعب الحفاظ على هذا الأساس، كما بينت تجربة تدمر بوضوح.
كما تواجه العمليات العسكرية الروسية في سوريا مزيدًا من الرؤية والتدقيق الإعلامي أكثر من أي شيء شهدته موسكو من قبل، مما يجعل معاناة المدنيين أكثر صعوبة. بالنظر إلى هذه التحديات، فأي مكاسب قصيرة الأجل في مجال الأمن يُحتمل أن تقابله عواقب سياسية سلبية طويلة الأجل. في الواقع هذا حدث من قبل.
مثل الولايات المتحدة، تكتشف روسيا أن الدخول إلى الشرق الأوسط أسهل بكثير من الخروج. رغم أن نهج روسيا الخفيف قابل للتطوير لجعل هذا الخروج أسهل، إلا أن هذا الخروج البسيط لا يبدو في الأفق. أصبح واضحًا لروسيا في وقت مبكر إلى حد ما من تدخلها السوري أن النصر الكامل للأسد مستحيل دون زيادة كبيرة في الالتزام العسكري الروسي، وهو ما ليس لدى موسكو الرغبة أو الموارد للقيام به.
أوضح توضيح لحالة روسيا المنشودة في سوريا هو مشروع الدستور السوري، الذي عُرض في قمة أستانا في يناير، ويتضمن استمرار بقاء النظام السوري، لكن المناطق المتبقية التي تسيطر عليها المعارضة ستحصل على حكم ذاتي إقليمي.
لم يحظ هذا الاقتراح سوى بدعم قليل من المعارضة السورية ومن أصحاب المصلحة الإقليميين الرئيسيين مثل تركيا وإيران. في الوقت الذي نجحت فيه روسيا في وضع نفسها كوسيط لا غنى عنه في الصراع السوري، إلا أن هذا النفوذ المتزايد للمفاوضة لم يؤت ثماره بعد.
كل هذا ليس لرفض دور روسيا المتزايد في الشرق الأوسط باعتباره خبيثًا أو متجهًا إلى الفشل. ما نشهده هو بذل جهد حقيقي وصادق لإعادة تشكيل ديناميكيات الأمن الإقليمي، ووقف موجة من الاضطرابات الثورية التي تعتبر غير مواتية للمصالح الروسية الطويلة الأجل. هي أيضًا استراتيجية مُصممة خصيصًا لتحقيق أقصى استفادة من موارد روسيا المحدودة، وتنفيذها حتى الآن فعالًا من حيث التكلفة. السؤال الآن هو ما إذا كانت ستُثبت فعاليتها، لكن الدلائل المبكرة تشير إلى أنه من خلال إبقاء التكاليف منخفضة، تحصل روسيا بشكل كبير على ما دفعته.
التقرير