في أول 100 يوم له في السلطة، حول الرئيس ترامب أرفع منصب في الدولة بطرق عميقة ودنيوية على حد سواء، دافعا بالحدود التقليدية، ومتجاهلا البروتوكولات القائمة منذ وقت طويل، وطارحا جانبا السوابق التاريخية، فيما هو يعيد تأطير البيت الأبيض وفق تصوره الخاص.
ولكن، تماما مثلما غير السيد ترامب الرئاسة، يقول مستشارون ومحللون أن الرئاسة قد غيرته هو أيضا. ومع أنه ما يزال متقلبا ويثار بسهولة ويتصرف بطريقة تدير الرأس في السياسة، فقد كيّف السيد ترامب مقاربته في بعض الأحيان مع المنصب والتحديات الضخمة التي ينطوي عليها.
بينما تتوقف واشنطن لتقييم المرحلة الافتتاحية لرئاسة ترامب، فإن الشيء الواحد الذي يبدو الجميع موافقا عليه، هو أن العاصمة الأميركية دخلت عميقا، للأفضل أو الأسوأ، في أرض مجهولة. في كل يوم من هذه الأيام المائة الأولى، فعل السيد ترامب أو قال أشياء جعل مؤرخي الرئاسة والمحترفين البارزين في واشنطن يستخدمون عبارة، “لم يحدث ولا مرة من قبل.”
كسب ترامب سلطات أقوى للرئاسة، موسعا استخدام الرئيس باراك أوباما للأوامر التنفيذية لتعويض عدم القدرة على تمرير القوانين الرئيسية، وجعل من الرئاسة أكثر استقلالية عن مؤسسة واشنطن. وكان أكثر جرأة من أي رئيس آخر من حيث استخدام سلطته لإبطال إرث سلفه، وعلى نحو خاص في حقل التجارة وتنظيم الأعمال والبيئة. كما أنه هيمن على النقاش القومي بطريقة ربما أكثر كثافة من أي رئيس على مدار جيل.
في الوقت نفسه، تخلص من اتفاقيات كانت تقيد الآخرين في مكتبه. واحتفظ بمصالحه التجارية التي يستثمرها بوضوح من خلال زياراته المنتظمة لممتلكاته. وكان أكثر وأقل شفافية على حد سواء، مقارنة بالرؤساء الآخرين، حيث أخفى عوائده الضريبية وسجلات زوار البيت الأبيض عن أعين الرقابة العامة، بينما يبدو وأنه يترك القليل من الأفكار دون التعبير عنها، بغض النظر عن مدى إثارتها أو عدم دقتها. كما أنه حول البيت الأبيض إلى مشروع تديره عائلة، بطريقة تشخص عروض تلفزيون الواقع.
تقول جانيت مولينز غريسوم، المسؤولة الرفيعة السابقة في بيت جورج بوش الأبيض ووزارة الخارجية: “أول مائة يوم له تعكس حجم التغيير الذي طرأ على الرئاسة. كان الفارق الأكبر بين الرئيس ترامب وأسلافه هو أنه أول رئيس رأيته في حياتي السياسية، والذي يعتلي سدة الرئاسة دون أن يكون مديناً بالفضل في نجاحه الانتخابي لأي مصلحة خاصة، ولهذا يتمتع بالحصانة في وجه أي ضغوط سياسية نمطية”.
وأضافت غريسوم أن ذلك يعوض من الناحية العملية عن الانتصار الذي حققة في “الكلية الانتخابية” من دون أن يفوز بالأصوات الشعبية، “وذلك يعطيه ميزة بحجم ميزة شخص فاز بأرقام كاسحة –كما يعطيه الحرية ليحكم بطريقته. إن الذين صوتوا له يحبونه بسبب هذه الميزة”.
بينما يغضب المخضرمون في واشنطن من انحرافات ترامب عن الأعراف السابقة، يرى مؤيدوه فيه رئيسا راغبا في خلخلة الأمور وهزها. وبينما تهتم واشنطن بالذوق والمظاهر والإجراءات، يريد أنصاره رئيسا يقاتل من أجلهم ضد القوى المتخندقة.
مع ذلك، كشف القائد الذي يكسر الأعراف عن إمارات على التطور. فالرئيس العامل في اليوم 100 ليس مثل الرئيس في اليوم الأول في كانون الثاني (يناير)، الذي كان يريد أن يكون طيبا مع روسيا، وأن يتسبب بمشكلة للصين، وأن يشن حربا على النخب. وباعترافه الخاص، اكتشف السيد ترامب كيف أن موضوعات مثل الرعاية الصحية وكوريا الشمالية هي أعقد بكثير مما كان يتصور، كما أنه تخلى عن بعض وعود حملته الأكثر تطرفا بعد معرفته المزيد عن القضايا المعنية.
يقول أتش دبليو براندز، الأستاذ في جامعة تكساس والذي كان قد كتب السير الشخصية لعدة رؤساء، بمن فيهم رونالد ريغان وروزفيلت: ” إنني أميل أكثر إلى القول بأن الرئاسة هي التي غيرت ترامب أكثر مما غيرها هو. لقد قام بتعديل أو تغيير نفسه فيما يتعلق بمعظم المواقف التي اتخذها كمرشح. لقد تدخلت الواقعية لتغييره -كما هو شأنها مع كل رئيس جديد.”
كل ذلك يحدث مع أول رئيس في تاريخ أميركا لم يمض يوماً واحداً في الحكومة أو الجيش، والذي أحاط نفسه بمستشارين كبار لم يفعلوا ذلك أيضاً. وعلى الرغم من أن السيد ترامب افترض أن خبرته في حقل الأعمال والترفيه ستنتقل إلى البيت الأبيض، فإنه اكتشف غير ذلك.
وقال الرئيس ترامب في مقابلة مع وكالة الأسوشيتدبرس: “إنني لم أدرك كم هي الأمور كبيرة حقا. إن كل قرار هو أصعب بكثير من القرار الذي تتخذه في الأوقات العادية.”
وفي مقابلة منفصلة مع وكالة رويترز، قال الرئيس ترامب: “هذا عمل أكثر من أي عمل كنت أقوم به في حياتي الماضية. كنت أظن أنه سيكون أسهل.”
وصل السيد ترامب إلى البيت الأبيض وهو غير معجب بالاتفاقيات التي كانت تحكم الرئاسة. وفي البداية، رفض فكرة تلقي إيجازات استخبارية كل يوم، لأنه “شخص ذكي” لا يحتاج إلى سماع “نفس الشيء كل يوم.”
كما أنه أزعج شركات محددة عبر “تويتر” حول موضوع نقل الوظائف وراء البحار، واتصل مع الرئيس التنفيذي لشركة لوكهيد مارتن، ليشتكي من كلفة الطائرة المقاتلة (أف-35)، غير آبه لحقيقة أن الرؤساء لا يقحمون أنفسهم عادة في شؤون الشركات المفردة أو يفاوضون مباشرة على عقود فيدرالية.
بالمثل، عزا السيد ترامب إلى نفسه الفضل في الأيام التي ارتفعت فيها أسعار الأسهم، وعلق علنا على قوة الدولار، وهو الأمر الذي لا يفعله الرؤساء لأنه قد ينظر إليه على أنه تدخل في غير محله في الأسواق، ولأنه قد يستدعي اللوم عندما تواجه الأسواق يوما سيئا أيضا.
ولا يعرف تبجح الرؤوس حدودا. وقال في خطابه الأسبوعي يوم الجمعة مؤخرا: “أعتقد حقا أن المائة يوم الأولى من إدارتي كانت من الأنجح في تاريخ بلدنا.”
وكان حساب الرئيس على “تويتر”، بطبيعة الحال، هو الوسيلة التي تشهد كل أنواع الانفجارات التي تتمرد على التقاليد، والتي غالبا ما تتغذى على أحدث الأخبار من فوكس نيوز. ونادرا ما يعمد الرؤساء إلى توبيخ مضيفي برامج الواقع بسبب تصنيفهم بشكل بائس، أو يشتكون من فقرات الكوميديا التلفزيونية التي تعرض في وقت متأخر من الليل، أو يعنفون القضاة أو أعضاء حزبهم الذين يخالفونهم، أو يقولون كلاما تافها لنجوم هوليوود السويديي، أو يعلنوا أن إعلام “الأخبار الزائفة” هو “عدو للشعب الأميركي”، أو أن يتهموا آخر رئيس بالتنصت على مكالماتهم الهاتفية بشكل غير قانوني من دون دليل.
لاحظ ديفيد غيرغن، الذي كان مساعدا في البيت الأبيض لأربعة رؤساء، بمن فيهم ريغان، أن فرانكلين روزفيلت تحدث عن “القيادة الأخلاقية” للرئاسة. وقال السيد غيرغن: “لسوء الطالع، أصبحنا نفتقد تلك الرؤية في الأعوام الأخيرة، وقد اختفت تقريباً خلال المائة يوم الأولى من إدارة ترامب.”
ثمة تغيير آخر في الرئاسة، والذي يتضمن رفض السيد ترامب الإفراج عن عوائده الضريبية –في تجاهل لممارسة درج عليها الرؤساء منذ 40 عاما- وملكيته المستمرة لإمبراطورية تجارية شاسعة، تشتمل ممتلكات وراء البحار وعلى بعد بضعة مقاطع سكنية من البيت الأبيض. وفي هذا السياق، يقول نورمان إيسن، مستشار الأخلاقيات الرئيسي في البيت الأبيض في عهد إدارة أوباما: ” لقد تجاوز حدود الأخلاقيات التي التزم بها كل الرؤساء الآخرين على مدى عقود.”
بالإضافة إلى ذلك، ما يزال السيد ترامب بطيئا في خلق هيكل مثل تلك الهياكل التي تكونت في الإدارات السابقة. ولا تخضع الأوامر والمذكرات للمراجعة من جانب كل المسؤولين المعنيين. كما أن الاجتماعات لا يحضرها دائماً المساعدون الرئيسيون الذين يمكن أن لا يقفوا إلى جانب الرئيس. وقال ديفيد أف غوردن ،مدير سياسة التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش: “لقد ذهبت فكرة سلسلة القيادة.”
لكن الرئاسة إذا بدت باهتة بعض الشيء في ظل الأعراف القديمة، لأن شاغليها التزموا دائما بنقاط حديث مصاغة بعناية وتجنبوا العفوية والارتجال، فقد استعاد لها السيد ترامب بعض المصداقية والرغبة في الانخراط . ومن الممكن أن تكون مؤتمراته الصحفية ومقابلاته صريحة جدا وغير منضبطة، بل وفجة أحيانا. وهو يترك القليل من الغموض حول ما يدور في خلده.
يقول جاسون ميلر، أحد كبار مستشاري ترامب خلال الحملة الانتخابية: “لم تكن انتخابات العام 2016 طلبا حساسا لتحدي التقاليد الموجودة؛ لقد كانت مطالبة بأن يفعل رئيسنا المقبل أشياء مختلفة. وبينما تناضل الطبقة السياسية المحترفة لفهم ما الذي حدث لقبضتهم على السلطة، فإن أنصار الرئيس ترامب -الرجال والنساء المنسيين الذين أشار إليهم في خطاب التنصيب- يحبون التغيير الذي يشاهدونه.”
من المفترض أن يظل السيد ترامب مندفعا، بل وحتى متهورا، لكنه كان أيضا منفتحا على النصيحة. وكان قد تحدث عن رفع العقوبات عن روسيا وعن نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، وعن التخلي عن سياسة “صين واحدة”، وعن تمزيق الاتفاقية النووية الإيرانية، وعن عكس وجهة الانفتاح الدبلوماسي على كوبا، وعن إقفال بنك اكبورت-امبورت. كما أعلن أن الصين تتلاعب بالعملة، وفي الأيام الأخيرة عن إنهاء اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وربما يفعل بعض أو كل هذه الأمور، وإنما ستكون لديه في الانتظار الفرصة لإرساء أرضية العمل بدلا من التصرف بتهور.
الآن، أصبح الرئيس يتلقى الإيجازات الاستخبارية في معظم الأيام. ويقول مساعدون له إنهم يشاهدون علامات على النضج في المنصب، مشيرين إلى قراره ضرب سورية بعد استخدامها الأسلحة الكيميائية ضد مدنيين (في خان شيخون)، وإلى جهوده الخاصة لإقناع مصر بالإفراج عن سجينة هي عاملة إغاثة أميركية من أصل مصري. وفي كلتا الحالتين، ظهر أن السيد ترامب “استوعب مسؤوليات الرئاسة وأثر القرارات التي يتخذها”، كما قال مسؤول في البيت الأبيض طلب عدم ذكر اسمه.
حتى لو تأقلم السيد ترامب، فإن السؤال الأكبر يدور حول ما إذا كانت المؤسسة ستظل كما هي. ربما يشعر الرؤساء المسقبليون بأنهم أكثر حرية في الإدلاء بتصريحات لا تستند إلى أساس، وفي الامتناع عن الكشف عن عوائد ضرائبهم، أو الاحتفاظ بمصالح تجارية خاصة من دون الخوف من التعرض لكلفة سياسية. ومتى ما كسرت المحرمات، فإنها لن تعود منيعة.
مع ذلك، يقول عمدة شيكاغو، رام إيمانويل، المستشار الرفيع للرئيس بيل كلينتون ورئيس موظفي السيد أوباما، إنه قد يكون هناك رد فعل عكسي متى ما غادر السيد ترامب البيت الأبيض. وتنبأ رام: “بعد ترامب سوف تكون هناك رغبة جماعية في العودة إلى التقاليد. أيا يكن من سيأتي تاليا، فإنه سوف يكون عكس ترامب أسلوبا وشخصية. هكذا تعمل الأمور.”
ووافق كارل روف، المستشار الرفيع للسيد بوش الابن، على ذلك. وقال: “سوف يجعل الرئيس ترامب من الصعب على الرؤساء المستقبليين التراجع عن استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية. لكن من المرجح جدا أن تكون الإدارة التالية أكثر تقيدا وأقل شخصانية. ربما يوظف الرئيس التالي الإعلام المجتمعي كاستراتيجية مقصودة. سوف تكون جزءا من خطة، وليس أسلوبا للتنفيس”.
من جهتها، تقول مينا بوس، مديرة مركز بيتر كاليكوف لدراسة الرئاسة الأميركية في جامعة هوفسترا، أن رئاسة السيد ترامب بدت حتى الآن على عكس أي رئاسة أخرى تقريباً، ربما باستثناء رئاسة أندرو جاكسون. وأشارت إلى أنه كان ينظر إلى جاكسون على أنه غريب الأطوار في ذلك الوقت، لكن المؤرخين صنفوه لاحقاً بأنه رئيس عظيم تقريباً.
وتساءلت بوس: “هل يمكن أن ينظر إلى رئاسة ترامب على نحو مشابه يوماً ما؟ من الصعب رؤية ذلك بعد علامة المائة يوم. لكن ذلك المقياس يظل اصطناعيا، خاصة وأنه ما يزال هناك الكثير جدا من أيام الرئاسة.”
بيتر بيكر
صحيفة الغد