لجدل المستعر في المملكة العربية السعودية منذ أسابيع وتحديدا منذ إعلان أحمد بن عقيل الخطيب، رئيس الهيئة العامة للترفيه في المملكة عن افتتاح قريب لدور السينما في المملكة، هو جدل يتجاوز مسألة الترفيه والموقف الأولي من الترفيه، رفضا أو قبولا.
الجدل المشار إليه هو تعبير مكثف عما يسود المجتمع السعودي من اعتمال بين رغبات تطمح إلى تغير المجتمع السعودي وجعل نسق حياته مواكبا للتحولات الاقتصادية والسياسية التي تعيشها المملكة، وبين نزعات محافظة مازالت تصر على وجوب احترام الخصوصيات التقليدية للمملكة، وهي خصوصيات ترى الجهات المتشبثة بها أنها أحد أهم مقومات سلامة المجتمع والبلاد.
جدير بالتذكير أن الهيئة العامة للترفيه هي هيئة سعودية تم إنشاؤها في 7 مايو 2016 وتُعنى هذه الهيئة بكل ما يتعلق بنشاط الترفيه. وكان قرار إنشائها أحد القرارات الملكية التي تأتي تماشيا مع إعلان المملكة لرؤيتها المستقبلية 2030، لما يمثله قطاع الترفيه من أهمية كبرى في تنمية الاقتصاد الوطني السعودي، وفي منح المدن قدرة تنافسية دولية.
وفي هذا الصدد قال ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إن إنشاء صناعة تسلية وترفيه في بلاده يمكن أن يساعدها في سعيها لإنهاء اعتمادها على النفط. وأوضح الأمير محمد، الذي ينظر إليه بوصفه القوة المحركة وراء الإصلاح الاقتصادي في المملكة، أن تطوير صناعة السياحة والترفيه محليا سيجلب للبلاد نحو 22 مليار دولار من الأموال التي يصرفها السعوديون حاليا في الخارج.
هيئة الترفيه بهذا المعنى ليست مجرد هيكل ثقافي أو فني تأسس لتكريس ثقافة الترفيه، بل إن إنشاءها كان في سياق سياسي واقتصادي تراهن عليه المملكة، والهيئة من هذا المنطلق تعبر عن إرادة سياسية عليا وتخدم سياسة اقتصادية كبرى تم الاشتغال عليها منذ سنوات.
جدل الترفيه في المملكة العربية السعودية هو جدل بين مملكة عزمت على التطور، ورسمت لنفسها مسارا اقتصاديا وسياسيا واضحا، أطلقت عليه عنوانا عريضا واضحا “رؤية 2030”
الجدل المشار إليه يتخذ أهميته أيضا، وفضلا عن الجوانب السياسية والاقتصادية، من كونه يمثل حلقة في مسار طويل من “الصراع” بين توجه إصلاحي وليبرالي سعودي يكابد من أجل تحسين نسق حياة السعوديين والسعوديات (بشكل خاص)، وبين توجه تقليدي يلتزم بالثوابت التأسيسية للمملكة، بشكل لا يقبل معه الجدال أو التنازل، بل يعتبر تلك الثوابت مفصلا أساسيا من هوية المملكة ومبادئها.
المرأة السعودية التي تناضل من أجل نيل حقوقها مثل حقها في قيادة السيارة أو من أجل إصدار مدونة الأحكام القضائية لقانون الأحوال الشخصية، وغيرها من المطالب، رأت ورأى المناصرون لها، وهم كثر في المملكة، أن الإعلان عن رؤية المملكة 2030 فرصة ذهبية نحو نيل هذه المطالب والتصالح بين مملكة تتطور اقتصاديا وسياسيا، وبين واقع المرأة الذي يراوح مكانه، لكنه مازال يتصدر السجال المجتمعي.
قضية الترفيه لا تخرج من هذا السياق من الصراع بين رؤيتين: رؤية محافظة وتقليدية، وأخرى إصلاحية وطموحة. وهي قضية لن تتوقف على السجال الدائر مؤخرا على خلفية تصريح رئيس هيئة الترفيه، وردود وتفاعلات مفتي عام المملكة، رئيس هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، بل ستتواصل أشواطها بناء على ما تقدم ذكره من كون الخلاف هو صراع بين رؤيتين للمجتمع السعودي.
المدافعون على حق المواطن السعودي في الترفيه، بأنواعه وبما يكفله القانون، لا يرون في الترفيه مجرد حفلات موسيقية أو عروضا سينمائية أو غيرها من المظاهر، بل يمثل عندهم ضربا من ضروب التحرر من أسر العقلية التقليدية التي كبلت طاقاتهم وتجبرهم على السفر إلى خارج البلاد لحضور حفل أو مهرجان أو فعالية ثقافية.
هم يرون في الترفيه مدخلا ضروريا لمصالحة واقع المملكة الاقتصادي مع نسق عيش سكانها، ويرونه أيضا معركة يجب خوضها لتقليص سيطرة رجال الدين التقليديين على كل شيء في البلاد، وهي سيطرة لا مبرر قانونيا أو سياسيا لها، وكل ما تنطلق منه هو التقاليد والعادات والأعراف.
أحمد بن عقيل الخطيب رئيس الهيئة العامة للترفيه قال “المحافظون الذين انتقدوا الإصلاحات يدركون تدريجيا أن معظم السعوديين وأغلبهم تحت سن الثلاثين يرغبون في هذه التغييرات”.
جدل الترفيه في المملكة العربية السعودية هو جدل بين مملكة عزمت على التطور، ورسمت لنفسها مسارا اقتصاديا وسياسيا واضحا، أطلقت عليه عنوانا عريضا واضحا “رؤية 2030”، وبين مملكة أخرى يصر فيها المتشددون على البقاء في زمن آخر من دون رؤية ولا منهج. المستقبل يتصارع مع الماضي في السعودية.
العرب اللندتية