مرت العلاقة بين كل من تركيا وروسيا بأطوار مختلفة خلال السنوات الأخيرة، فمن العلاقة العادية التي لا تخلو من مناكفة يفرضها التنافس الإقليمي والتقاطعات الجيوسياسية، إلى التوتر بعد حادثة اسقاط الطائرة الروسية، ثم التطبيع مع بدايات العام الماضي، وصولاً إلى ما نشهده الآن من دخول في علاقة استراتيجية جديدة بين الطرفين. في العالم العربي وعوضاً عن استخلاص الدروس المستفادة من كيفية إدارة الدول المسؤولة لأزماتها واختلافاتها مع الآخرين، وقف كثير من المحللين المصطفين بشكل مسبق مع هذا الطرف أو ذلك، على تفصيل صغير من تفصيلات القصة، فزعم أنصار روسيا أن تركيا هي التي اعتذرت، وأنها خشيت المواجهة مع الروس، في حين رأى الطرف الآخر أن تركيا ضغطت من خلال ملفات كثيرة على روسيا، التي ابتلعت في الأخير تهديداتها وتناست طائرتها وجنديها القتيل.
هذه هي الحلقة المفرغة التي بدأت مع بدايات الأزمة ولم تنته حتى الآن. للأسف فإن معظمنا لا يستطيع الخروج من ضيق المعادلات الصفرية، التي تعتبر كل من ليس معنا فهو ضدنا، وأن كل من يختلف معنا فعلينا أن نخوض حرباً ضده، حتى دون أن نقرأ ما الذي يمكن أن تقود إليه هذه الحرب، وما سوف تؤدي إليه من مصاعب وتعقيدات. الحرب بين روسيا وتركيا لم تقم، بل لم يتحدث أي طرف بشكل جاد عن نيته خوض حرب لاستعادة الكرامة، وهو ما نادت به أطراف لا تمثل الصوت الرسمي في أي من البلدين.
لا يهمني في هذا المقام معرفة من الذي بادر وتقدم بالخطوة الأولى، فالأهم أنه لولا الرغبة الجادة للطرفين لما استطاعا تجاوز تلك الفترة الحساسة من تاريخهما. هذه التفاهمات كانت متجذرة، لدرجة صمودها أمام أحداث إقليمية خطيرة، وضد صدمات تعرض لها الأتراك والروس في أكثر من مكان، لكنهما كانا قادرين على التعامل بحكمة وحزم مع دعوات التصعيد الحماسية التي كانت تأتي من أكثر من طرف في الداخل والخارج.
الحقبة الجديدة التي تدخلها الآن العلاقة بين الطرفين، والتي أسست لها بشكل واضح زيارة الرئيس التركي الآخيرة إلى موسكو، تستند إلى تفهم كل طرف لمصالح الطرف الآخر، وهواجسه الأمنية والسياسية والاقتصادية. كان الرئيس التركي حريصاً خلال الزيارة على نقل رسالة مفادها أنه، حتى الخلافات المتعلقة بالمنطقة العربية، أو ما سماها بالشرق الأوسط، قابلة للحل، وأن بإمكان البلدين «تغيير مصير المنطقة». وهي التصريحات التي عجز محللونا عن تفسيرها، فكيف يمكن تصور التعاون في سوريا مثلاً بين روسيا التي رسّخت وجودها العسكري لدرجة التماهي السياسي والأمني مع نظام بشار الأسد، وتركيا التي تموّل وترعى عدداً من الجماعات المعارضة الإسلامية وغير الاسلامية؟ لكن الأمر يبدو أسهل من ذلك إذا استطعنا تنحية لغة الشعارات الاصطفافية، وتتبعنا فقط منهج الواقعية السياسية. هذه الواقعية تخبرنا أنه لولا التعاون التركي مع روسيا، لما استطاعت تركيا تنفيذ تدخلاتها الحازمة ضد قوات الحماية الكردية في غرب الفرات. الضوء الأخضر الذي منحته روسيا التي تملك الأرض والجو السوريين بوضع اليد، ساهم في إنجاح «درع الفرات» ومنع أو تعطيل مشروع الفدرالية في سوريا.
حتى نستوعب ذلك يجب أن نعلم أنه ليس من مصلحة الروس بقاء الحال كما هو عليه في سوريا، فهم من يدفع الفاتورة الأكبر سياسياً واقتصادياً. كل ما تطالب به روسيا في هذه المرحلة هو حل سياسي لا يضيع جهودها السابقة، ويكون كفيلاً بحماية مصالحها الاقتصادية المتمثلة في المنفذ البحري، والأمنية المتعلقة بتطويق الجماعات المتطرفة وقطع الطريق عليها قبل أن تصل إلى العمق الروسي. أما بالنسبة لتركيا فإن ما يهمها بشكل رئيس الآن، ليس مصير الرئيس السوري، بل مصير حزب العمال الكردستاني، ومصير الكيان الكردي الحدودي، الذي يبدو مدعوماً من الغرب خصوصاً الولايات المتحدة. وإذا كانت الأخيرة، وهي الحليف المفترض لتركيا، جادة في دعم الجماعات المسلحة الكردية المعادية، فإن هذا سوف يبعثر أوراق اللعبة بشكل قد يجعل عدو الأمس حليفاً.
الصفحة الجديدة التي تم فتحها بين أنقرة وموسكو لا تتعلق فقط بالتفاهمات السياسية والتعاون الاقتصادي (وإن كان الأخير مهماً حيث نتحدث عن رفع التبادل التجاري إلى ما يتعدى مئة مليار دولار)، بل يتعدى الأمر ذلك إلى التعاون الأمني، خاصة الاستفادة من التقنية الروسية في المجال العسكري، وتقنيات الدفاع الجوي التي تحتاجها تركيا، التي ما تزال تعتمد على الدفاعات طويلة المدى التي يوفرها حلف الناتو. الحديث الذي يدور حالياً حول نية روسيا بيع منظومة S400 المتطورة لتركيا يمكن أن يوضح بجلاء ما نعنيه بتبعثر الأوراق السياسية، حيث يفترض أن تكون تركيا جزءاً من حلف الناتو، الذي يستمد مبرر بقائه من خلال مفهوم «الأمن الجماعي» والقلق المشترك من الخطر الروسي، فكيف يستقيم أن تشتري تركيا من روسيا أسلحة دفاعية بهذا الحجم وهي عدوها المفترض؟ وإذا كان مثل هذا التعاون لا يتم إلا بين شركاء استراتيجيين، فكيف يمكن لأحد الأطراف أن يكون عدواً وشريكاً استراتيجياً في الوقت ذاته؟
روسيا باعت فعلاً ذلك السلاح وغيره إلى الصين مسبقاً، ولكن هناك فروقاً لا تخفى بين علاقة روسيا مع الصين وعلاقتها مع تركيا. سؤال آخر: السلاح المعني يعترض كل تهديد مقبل من الجو. هذه التهديدات متوقعة في الغالب من قبل أصدقاء روسيا في المنطقة، بالتحديد العراق وسوريا وإيران، وما ارتبط بها من تنظيمات وجماعات، فهل أصبحت موسكو أقرب لأنقرة من غيرها من أصدقاء وحلفاء الأمس، بحيث تكفل حمايتها بهذا الشكل؟ إجابة هذا السؤال ستحددها الأيام المقبلة، فإذا تم المضي فعلاً في هذه الصفقة تكون أوراق اللعبة قد تغيرت بشكل أساسي وغير قابل للتعديل.
الأسلحة ليست كغيرها من السلع التجارية، وشراء هذه الباقة الرادعة يعني ادماج منظومة دفاعية روسية داخل حلف الناتو، كما يعني اطلاع أعضاء الحلف وقيادته على هذه التقنية عن كثب، بل وتجريب مداها وقدراتها. هذا لن يحدث إلا في حالتين، أولاهما، حدوث تطبيع تاريخي بين روسيا ودول الحلف، يتم فيه تنسيق عسكري كامل ومشاركة تامة للمعلومات، وهو أمر مستبعد حالياً. والثانية هو أن تنأى تركيا بنفسها عن الحلف مطورة علاقة موازية مع روسيا والصين وهو خيار ليس سهلاً.
أرجّح أن الأمر ليس سوى بالون اختبار للمعسكر الغربي، الذي إما أن يكف عن التلاعب بتركيا والاستخفاف بها، وإما أن يفقدها، بكل ما تحمله من وزن عسكري واقتصادي لصالح منافسين صاعدين.
قمة الناتو المقبلة، وقبلها زيارة الرئيس أردوغان لواشنطن سوف تضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بمستقبل العلاقات التركية مع الغرب عموماً. أما العلاقات الروسية التركية فتبقى وفقاً لكل المؤشرات، وبغض النظر عن الصفقات العسكرية، في أحسن أحوالها.
د.مدى الفاتح
صحيفة القدس العربي