احترمت فرنسا الاستمرارية الجمهورية، وأنقذت نفسها من التسونامي الشعوبي الذي سبقتها إليه ديموقراطيات عريقة. بعدما حافظت على تراثها، الجمهوري العلماني، بل الملكي أيضاً؛ بأفضل
ما يزخر ثلاثتهم من صروح. عبَّرت عن طبيعة انقساماتها المهنية المناطقية، رسمت خارطة معاناتها. قالت هذه الانتخابات إن في فرنسا مدناً كبرى ومناطق شمالية غربية، لا تعاني إلى حدّ نسف أسسها الجمهورية عبر التصويت لليمين المتطرّف، ومناطق شمالية شرقية، بلدات وريفا، أبناؤها الأقل تعلماً هم الخاسرون من الاقتصاد المعوْلم الجديد، ذاهبون كالانتحاريين نحو إحدى الشعوبيّتين: اليمين المتطرّف، بقيادة مارين لوبان، واليسار المتطرّف، بقيادة جان لوك ميلانشون. وكلاهما يُنذر بالتعثر والخراب. خريطة شبيهة لأميركا، مع نتيجةٍ مختلفة، صعّدت الملياردير دونالد ترامب، والواعد بالإنغلاق على العالم، بصفته خلاصاً للفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل الأميركيين. لم تذعن فرنسا لنشيد اليأس، لم تنجرف في تياره. أنهت مجد أحزاب الطبقات التي أخفقت في الدفاع عن عناوينها. أوقفت جمودها وسلّمت قيادتها إلى مرشّحٍ غير حزبي، بعد ثلاثة عقود من التناوب بين حزبي اليمين واليسار. سلّمت الرئاسة لمن تميّز بالإفصاح مسبقاً عن طريقته: سوف نجرِّب، سوف نجازِف، سوف نتخيَّل، سوف نخترع طرقاً جديدة لمواجهة انحدار عالمنا. وذلك بالاعتماد على مواردنا وطاقاتنا وأصحاب الكفاءات بيننا (إدوار فيليب الذي عيّنه ماكرون رئيسا لمجلس الوزراء، وهو من اليمين الوسط، كان قد كتب، في أثناء الحملة الإنتخابية في إحدى الصحف، عن ماكرون المرشح: “إنه لا يتحمل مسؤولية شيء. يطلق الوعود بحيوية الغازي المراهق وسينيكية المجرِّب العجوز”. ماكرون لم يكن يبحث تحديداً عمّن يواليه ليعيّنه رئيساً للوزراء، إنما عن صاحب كفاءات).
ولد حزب هذا الرئيس منذ عام فقط، وحمل اسم “هيا نمشي!” (en marche!)، مع نقطة تعجب (!)، فيها الإلحاح والزخم والحركة، من دون أيديولوجيا، كما الأحزاب التقليدية، ولا
وعود بالجنّة، ولا غضب. حزب يعامل التاريخ على أنه حركة، فمن دون حركةٍ، لا تاريخ. ومن دون حركةٍ نلهث وراء تاريخ غيرنا. تجاوبَ الفرنسيون مع هذه الحركة، منعاً لوصول مرشحة اليمين العنصري المتطرّف إلى الرئاسة. فكانت النتيجة، المباغِتة والبديهية في آن. ثم مفاجأة استطلاعات الرأي التي صدقت هذه المرة؛ خلافاً لتلك التي سبقت الأميركية و”البريكست” البريطانية. وكان بالتالي انتصاراً على الإرهاب، وقد راهن الرئيس الروسي عليه لتربح مرشحته المفضّلة، مارين لوبان. انتصار “مؤقت”، يقول الراضون والمستاؤون من النتيجة، يحتاج إلى التثبيت. فاليمين المتطرّف، الخاسر، نال عشرة ملايين صوت، أي أنه تقدّم عما سبق. كل هذا صحيح. ولكن، ما من شيء يدوم في التاريخ. ثم المشّاؤون، بمجرد أن حركتهم ممكنة، قفزوا حتى الآن ضد المفاهيم الثقافية التي تضرب أوروبا بمعولها التهديمي: الفرنسيون يريدون أوروبا واحدةً قويةً، ونحن أيضاً نريدها. فأوروبا، وفرنسا بطليعيتها الثقافية، ركَلت حتى الآن الإسلاموفوبيا، العنصرية، الشوفينية، الذكورية والمؤامرتية… بضربة جزاء. سدّدت للحليفَين الموضوعيين، الإرهاب والبوتينية، ضربةً في صميم ملعبهما. ناقضت أقوال الاقتصادي الأميركي، جوش ليرنر، إن المجتمعات الديمقراطية “ضجرت من الديمقراطية”. كلا. الديمقراطية، عكس الاستبداد، تتحدّى الملل السياسي، تصنع الحدث، المقلق، مثل كل أحداث عصرنا، ولكنه ليس قلقاً تنازلياً بالحتمية التي يتمناها خصوم الديمقراطية. مع أن الرئيس الجديد، خلافاً للأحزاب التقليدية، لا يمتلك برنامجا مفصلاً، أكثريته السياسية لا تتطابق مع أكثريته الاجتماعية، ولا غالبية برلمانية يعتمد عليها، وهو يفتح الباب أمام المجهول. تماما مثل ترامب، يفتح الباب لأميركا أمام مجهول. ولكن المجهول الأول ينطوي على ديناميكيةٍ وأمل، لفرنسا، لأوروبا، ولنا ربما؛ فيما المجهول الثاني مرعب لأميركا وللعالم كله.
كل هذا حصل في ظل قانون الطوارئ… فرضته ضرورات مواجهة الإرهاب الذي ضرب قلب العاصمة الفرنسية.
دلال البزري
صحيفة العربي الجديد