ضيق الأنشطة السياسية حول عنق ترامب، وليس لديه سوى سبيل واحد للخروج فقط: الحرب. وفي الأثناء، تتسارع وتيرة الانخراط الأميركي في الحرب السورية، بينما تغوص مخالب ترامب أعمق في داخل الصراع. وإذا نجح في القبض على فريسته، فإنه سيتوافر على فرصة للتشبث بالرئاسة.
وبدلاً من ترامب، سوف يتغذى الديمقراطيون، الذين يحيطون الآن بترامب الجريح، على سورية متعفنة: فالشيء الوحيد الذي يمكن أن يمنع الديمقراطيين من تدمير ترامب هو إذا دمر ترامب سورية.
تستند استراتيجية ترامب على كيفية رد فعل الديمقراطيين بعد أول هجوم له على الحكومة السورية يوم السادس من نيسان (أبريل) الماضي: وقد أوقفوا “مقاومتهم” التي بلا أسنان لأجل الاحتفال بقصفه. وقد عرى ترامب، في أوج خطورته، الديمقراطيين في أضعف أوضاعهم.
والآن، ضرب ترامب الحكومة السورية مرة أخرى: يوم 18 أيار (مايو)، هاجمت الطائرات المقاتلة الجيش السوري في شرقي سورية، من قاعدة عسكرية أميركية جديدة تعمل داخل الأراضي السورية التي يسيطر عليها الأكراد السوريون، حيث يتواجد على الأقل 1000 جندي أميركي ناشط.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام الأميركية قللت من شأن هجوم ترامب الأخير -أو تجاهلته كلية- فإن الصحفي البريطاني الأسطوري المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، روبرت فيسك، قد أماط اللثام عن المغزى:
“ما وصفه الأميركيون بأنه عمل صغير، كان جزءاً من صراع أكثر أهمية بكثير بين الولايات المتحدة والنظام السوري للسيطرة على الحدود الجنوبية الشرقية لسورية…”.
نعم، إن الولايات المتحدة هي أصلاً في حالة حرب مع الحكومة السورية من أجل السيطرة على المناطق السورية. ولم تكن الحرب الأميركية على “داعش” في سورية تتعلق أبداً بـ”داعش”، وإنما تتعلق بالحصول على موطئ قدم مباشرة في داخل سورية. وقد قلل العديد من المحللين والمتابعين هجوم ترامب الأوَّلي على الحكومة السورية باعتباره “رمزياً” عندما كان يبدأ في الحقيقة حرباً جديدة. وتؤكد صحيفة “نيويورك تايمز” الدافع وراء حرب ترامب:
“ثمة ائتلافان متنافسان يرميان إلى إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية -واحد (مقاتلون أكراد وأميركيون) مدعوم من القوة الجوية الأميركية؛ والآخر (الحكومة السورية) المدعومة بالطائرات الحربية الروسية- واللذان يتسابقان على الهدف نفسه”.
ما هو هذا الهدف؟
“ثمة ضرورة ملحة لدى الائتلافين المتنافسين اللذين يقاتلان ‘الدولة الإسلامية’ لكسب بقصب السبق في جنوب شرق سورية من خلال إلحاق الهزيمة بالمجموعة (داعش)، وشغل فراغ السلطة الذي سينجم عن هزيمته… ومع أن شرقي سورية والمنطقة المحيطة بدير الزور هما صحراء غير مأهولة، فإنما تتوافران على حقول النفط السورية المتواضعة… وتعد المنطقة مهمة استراتيجياً للولايات المتحدة التي تريد إضفاء الاستقرار على العراق، حيث لديها استثمارات عسكرية وسياسية طويلة الأمد، وهي مهمة لروسيا التي تريد تقوية سيطرة الحكومة السورية على أكبر قد ممكن من الأراضي”.
باختصار: يريد الجيش الأميركي “احتلال” منطقة “فراغ السلطة” التي يتركها “داعش” لأن الأراضي السورية “مهمة استراتيجياً” للولايات المتحدة.
لا تدور الحرب حول “داعش” لأنه لا حاجة للجيش الأميركي بإلحاق الهزيمة بالتنظيم في سورية، نظراً لأن قدر المجموعة المحتوم تحدد في اليوم الذي قررت فيه تركيا رص الصفوف ضدها -عبر إقفال حدودها مع سورية- بدلاً من دعمها علناً كما سبق وأن فعلت لأعوام عدة.
لذلك، لا توجد لدى الحكومة السورية -بدعم روسي وإيراني- أي مشكلة في إلحاق هزيمة ساحقة بـ”داعش” في سورية وهم يسابقون لتحقيق ذلك الهدف أولاً قبل أن يعلن الائتلاف الأميركي-الكردي سيطرته على الأراضي أولاً.
وفي الأثناء، يرحب ديمقراطيو المؤسسة في أحاديثهم الخاصة بأهداف حرب ترامب، وهو ما يفسر السبب في أنهم لا يدينونها علناً. وقد نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الصديقة للديمقراطيين مقالاً رئيسياً كاشفاً بعنوان “عقيدة ترامب للشرق الأوسط”، وفيه يرحب الكاتب بأهداف حرب ترامب:
“على الرغم من الجدل الدائر في الوطن، فإن ترامب قد يخرج بإنجاز يعزز إرثه: عقيدة ترامب الخاصة بالشرق الأوسط… ومن الخطأ القول إن “القوة الناعمة” الأميركية هي مفتاح استقرار المنطقة (الشرق الأوسط). وسوف تعمل مثالياتنا، مثل الديمقراطية، لصالحنا فقط إذا قمنا باستعادة النظام أولاً -وهو مشروع يستند إلى القوة الصلبة الأميركية (التدخل العسكري). وبالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام القوة لا يأتي بنتائج عكسية بالضرورة…”.
ويشرح المقال أن “القوة الناعمة” التي استخدمها أوباما، (الحرب في سورية بالوكالة)، قد فشلت، وأن ترامب يهدف إلى “استعادة النظام” من خلال استخدام “القوة الصلبة” (تدخل عسكري مباشر). وبينما تسقط قنابل ترامب بطريقة أكثر كثافة، سوف يدفع الديمقراطيون لدعم حرب أوسع من شأنها أن تهدد بجنون وبازدياد بحدوث مواجهة مباشرة مع الروس. وكانت الحكومة الروسية قد دانت بالصوت العالي أحدث قصف لترامب ضد الحكومة السورية، وأرسلت المزيد من القوات الروسية إلى المنطقة رداً على ذلك.
لطالما كانت الحرب الأميركية ضد “داعش” في سورية ذريعة لتقويض الحكومتين السورية والإيرانية. ويفسر روبرت فيسك بالقول:
“يبدو أن قطع سورية عن العراق -وبالتالي عن إيران- هو هدف عملياتي أكثر مباشرة بكثير للقوات الأميركية في سورية من القضاء على طائفة “الخلافة” السنية (داعش) التي تدعي واشنطن بأنها عدوها الرئيسي في الشرق الأوسط”.
فكيف قد ينتهي هذا “السباق لهزيمة داعش”؟ تعطي رحلة ترامب المبشرة إلى السعودية بعض البصيرة لاستكشاف عقيدة ترامب. فقد أبرم ترامب صفقة أسلحة هائلة مع السعودية بقيمة 350 مليار دولار على مدار 10 أعوام، وهو يريد من السعوديين أن يستخدموا المال للمشاركة في قيادة “ناتو عربي” (تحالف عسكري). فمن هو الذي سيستهدفه هذا التحالف؟ أوضحت الإدارة الأميركية أن إيران هي الهدف الرئيسي، وبذلك تكون سورية هي المقبلات.
في مقال منفصل، يناقش روبرت فيسك زيارة ترامب للسعودية:
“الهدف، مع ذلك، بسيط: إعداد المسلمين السنة (الممالك الخليجية المتحالفة مع الولايات المتحدة وآخرين) في الشرق الأوسط لشن حرب ضد المسلمين الشيعة (إيران وسورية وحزب الله). وبمساعدة إسرائيل طبعا”.
هذا هو السبب الحقيقي الذي دفع ترامب إلى إعطاء الأولوية للعربية السعودية لتكون أول محطة توقف مهم دائماً في أول رحلة له إلى الخارج: ويعلن ترامب بوضوح التزامه تجاه هذه الدول في المنطقة التي تكمن أولوياتها الرئيسية في تحطيم أعدائها الإقليميين: اليمن وسورية وإيران.
المقصود من “الناتو العربي” هذا هو أن يعمل مثل جيش دمية للولايات المتحدة، بالطريقة نفسها التي يعمل بها الناتو “الرسمي” في أوروبا و”قوة الاحتياط” في الاتحاد الإفريقي في إفريقيا؛ حيث يشترك حلفاء الولايات المتحدة في تولي مسؤولية قمع الدول المجاورة التي تخالف المصالح الأميركية، أي الذين يرفضون التخلي عن تقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي.
تجدر الإشارة إلى أن تشكيل “ناتو عربي” بقيادة أميركية كان في السابق مستحيلا لأن الولايات المتحدة مكروهة في عموم الشرق الأوسط بسبب تحالفها طويل الأمد مع إسرائيل، بالإضافة إلى إفنائها الأخير لأفغانستان والعراق وليبيا. ويظهر الانفتاح الذي تحاول بعض الدول العربية من خلاله تشكيل هذا التحالف كم أصبحت أنظمة هذه الدول بعيدة عن مواطنيها الذين يمنعون من التعبير عن كراهيتهم من خلال الانتخابات أو الاحتجاجات العلنية.
يعد التحالف بقيادة ترامب منذراً بشكل خاص لأن الحلفاء الأميركيين في المنطقة يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة من جانب أوباما عبر مقاربته الشرق أوسطية: وهم يريدون تأكيدات جوهرية بأن هذه الخيانة لن تتكرر مرة أخلى، نظراً لأن حلفاء الولايات المتحدة خاطروا كثيراً بتغيير النظام في سورية بعدما أكد لهم أوباما أن تغيير النظام سيكون رهاناً آمناً. وتعني زيارة ترامب، من الناحية العملية، التزاماً جديداً بالإطاحة بالأسد وتجدد الأعمال العدائية مع إيران، واستهداف الصفقة النووية.
تتشابه استراتيجية حرب ترامب الراهنة في سورية مع تجربة الرئيس بوش الأب في العراق بعد حرب الخليج الأولى في العام 1991: فقد استخدم بوش منطقة حظر الطيران فوق منطقة شمالي العراق ذات الأغلبية الكردية والتي قسمت البلد كأمر واقع، مما سمح للأكراد بالاستيلاء على السلطة وحيث يظلون في السلطة اليوم كدمية أميركية مهمة. وقد ساعد تقسيم العراق على إضعاف البلد تحضيراً للغزو الأميركي في العام 2003.
الآن، يتلقى الأكراد السوريون الأسلحة الأميركية، وقد قُدمت لهم وعود مشابهة لتلك التي كانت قد أعطيت لنظرائهم العراقيين، لكن الأكراد السوريين محقون في توترهم بسبب تحالفهم الجديد.
ففي قتالهم اليائس ضد “داعش”، قبل الأكراد التحالف مع القوة العسكرية العظمى في العالم: فالوطن الكردي الأم مبتلى بالفئران، ولذلك استدعوا النمر ليتعامل مع المشكلة؛ لكن متى ما تم القضاء على الجرذان، سوف يظل النمر جائعاً. ويعيش الأكراد بجوار نمر جائع آخر، الحكومة التركية.
يحفل التاريخ الكردي بالخيانات الدائمة التي تعرض لها الأكراد من قوى أكبر. والآن، يتوسلون على صفحات “نيويورك تايمز” بأن لا تتم خيانتهم مرة أخرى، بما أنهم يرون الكتابة على الجدار:
“رئيس ترامب.. أعطنا وعدك بأنه حتى بعد تحرير الرقة (في سورية)، فإنك سوف تمنع محاولات تركيا تدمير ما شيدناه هنا”.
من الطبيعي أن يكون “وعد” ترامب بلا معنى (حتى أنه لن يجاهر بمثل هذا الوعد). ويجري استخدام الأكراد كبيادق ميدان معركة في لعبة أكبر. وفي الوقت الذي يصطف فيه ترامب مع الأكراد في سورية، فإنه يصف الأكراد الأتراك بالتزامن بأنهم “إرهابيون”، حتى على الرغم من أن الأكراد الأتراك والأكراد السوريين متحالفون على نحو وثيق أيديولوجياً وعسكرياً.
مثل كل “القوات البرية على الأرض”، يعد الأكراد الطرف الأكثر فائدة للولايات المتحدة للعمل كعلف للمدافع، بينما يستفيد الناس الأكثر قوة من القتال. وتبقى القوة السياسية للأكراد ضعيفة عند مقارنتها بعدوتهم تركيا التي لحكومتها مصالح طويلة الأمد (تدمير الأكراد) والتي ستتغلب على أهداف ترامب العسكرية قصيرة الأمد.
تتفاعل حدة التناقضات السالفة الذكر في عموم الشرق الأوسط لدرجة تقترب معها من نقطة انفجار آخر. وتبدو عقيدة ترامب كقاذف اللهب الذي يستطيع في الحال إشعال مواجهة أكبر مما شاهدناه أصلاً في عموم الشرق الأوسط. وإذا لم تعمد حركة مقاومة ترامب في الولايات المتحدة بسرعة إلى منح الأولوية لاستراتيجية معادية للحرب فعلاً، فسوف يكون هناك النزر اليسير من المقاومة التي يمكن التحدث عنها بينما نهوي إلى أتون الحرب.
شاموس كوك
صحيفة الغد