عادت نادية مراد إلى منزلها في قرية كوجو في قضاء سنجار في شمال العراق، بعد طرد «داعش» من القرية. الشــابة الإيزيدية الناجية من السبي بعد قتل كل أفراد عائلتها، قالت إن أفراداً من عشائر عربية تقيم في جوار قريتها هم من أقدموا على قتل عائلتها. كررت أسماء العشائر في تصريحاتها، وطلبت الانتقام لعائلتها.
في هذا الوقت كان الجنرال قاسم سليماني يزور الحدود العراقية- السورية بعد أن تقدم الحشد الشعبي الذي يقوده، إلى الجهة العراقية من منطقة البوكمال. التقط الجنرال صوراً لنفسه هناك، وغردت وكالة أنباء إيرانية بهذه المناسبة عبارة: «الحدود الإيرانية مع سورية تقترب من أن تصير حقيقة».
قد لا تربط الواقعتان علاقة مباشرة، لكن المرء عليه أن يستعيد في ظلهما حقيقة الخراب الكبير الذي أصاب كل شيء في مشرقنا، والذي لم يعد ممكناً العودة إلى ما قبله. فقد اهتزت علاقة السكان على نحو جذري بمناطق سكناهم. نادية مراد ما إن وصلت إلى منزلها حتى أصيبت بانهيار، وأشهرت، وهي سفيرة الأمم المتحدة، رغبتها في الانتقام. أما سليماني فقد وصل إلى البوكمال عابراً مساحات هائلة من الديموغرافيا المعدلة مذهبياً. وعبر في ظل تغيير جوهري في فكرة الحدود التي تفصل بين الكيانات والدول، وأيضاً في ظل قيادته المعلنة والموثقة، هو الجنرال الإيراني لأكثر الفصائل العراقية تأثيراً، أي الحشد الشعبي.
لم يعد ممكناً القياس على المعطيات «الوطنية» لتحديد بوصلة الأحداث. الخراب الكبير أصاب الخريطة من داخل هذه الكيانات ومن خارجها. في الداخل نادية مراد تطلب الانتقام، وفي الخارج قاسم سليماني يعيد محو الحدود ويرسم طموحاته الامبراطورية. لا عراق هنا ولا سورية، وإذا كان من عراق، فهو الشابة الإيزيدية التي لم يعد يربطها بمنزلها سوى واقعة سبيها فيه وقتل عائلتها في محيطه. أما القتلة، فقد حان اليوم دور سبي عائلاتهم، ضمن دوامة الانتقام التي لن تنتهي قريباً.
والحال أن الكيانات الناجية، نسبياً، في إقليمنا لن تطول بها النجاة. فالكارثة تقترب ولم يعد ممكناً تفادي تبعاتها. لبنان يقاتل في سورية، والأردن يعيش على شفير خريطة متبدلة في بادية الشام. الكيانان «المفتعلان» بحسب الخطاب الوحدوي السقيم، أبديا تماسكاً يفوق ما أبدته الكيانات الأبدية على ضفتي البعث، لكنهما ينوءان اليوم بفعل اندراج جماعة لبنانية بالحرب السورية، وبفعل خريطة الطموحات الامبراطورية الإيرانية في بادية الشام على الحدود مع الأردن.
الخرائط الافتراضية انبعثت مجدداً. المكاتب والأدراج مليئة بالتوقعات حيال احتمالات ضم المناطق والصحاري والمدن المدمرة إلى كيانات جديدة، وسلخها عن كيانات كانت ضُمت إليها في بدايات القرن المنصرم. لا شيء نهائياً سوى أن العودة إلى الخريطة الأولى لم يعد ممكناً. فالخطوات التي أنجزت لمنع العودة هائلة. والخطاب المبتذل عن التمسك بالحدود صار واهياً ومكشوفاً، فعن أي حدود يتكلمون في ظل الجسر الهائل الذي عبدته طهران لربط حدودها مع سورية. ثم ماذا عن نازحين لم تعد تربطهم بمدنهم وقراهم وباديتهم سوى صور المرارات التي أشعلها تدفق «داعش» عليها وقبضه على أرواحهم.
مشاهد مخيمات النازحين في جوار المدن والمناطق المنكوبة تؤشر إلى أن لا شيء سيعود إلى ما كان عليه! النازحون بصدد البدء من الصفر. والصفر هنا صفر تاريخ وصفر ذاكرة وصفر علاقات كانت قد صيغت على مدى قرون. الطفل يولد هنا في المخيم، في هذا المكان غير النهائي، وذاكرة أهله عن مدينتهم لا تعني شيئاً، فهم غادروها إلى هذه الصحراء التي لا تقول لوليدهم شيئاً. المخيمات ليست مناطق سكن موقت، كما أنها لا تصلح لأن تكون مستقبلاً.
التشوش هائل، ولا يمكن الركون لأي توقع. فالقوى المؤثرة والفاعلة أعجز عن تثبيت طموح. اهتزاز الديموغرافيا البشرية صار أقوى ممن أحدثوه. «داعش» لا يملك زمام نفسه وها هو يندحر من المدن إلى الصحراء، فيما يُدرك قاسم سليماني أن دونالد ترامب صار الشريك الأكبر في مستقبل الإقليم، ومنطقة البوكمال التي زارها الجنرال أخيراً هي مساحة المواجهة المحتملة.
سورية لم تعد سورية التي تتبادر خريطتها إلى ذهنك حين تُلفظ العبارة. لم تعد جغرافيا وبشراً يعيشون على هذه الجغرافيا. صارت فكرة وتحالفاً وحرباً. أما العراق فقد استبدل صداماً واحداً كان يحكمه بصدامات كثر لا يحكمونه. للشيعة نوري المالكي وللسنة أبو بكر البغدادي، فيما الأكراد يبتعدون يوماً بعد يوم، ويفشلون في الانفصال عن هذا الجسم العليل.
الكيانات «المفتعلة» تنوء بدورها تحت وطأة انهيار الكيانات «الأبدية». إنهما لبنان والأردن اللذان لطالما استفزا في وحدويي الكيانات الأبدية رغبة في الضم، لم تنفجر حدودهما حتى الآن، إلا أن الخريطة لن تستثنيهما. فالطموحات «الوحدوية»، تمكنت من زرع بذور لها فيهما، وأخذت حزب الله إلى سورية، فيما الأردن قد يرى نجاته في التقدم إلى البادية.
وإذا كانت الخريطة القديمة قد رسمت وفق طموحات «مستعمرين بيض» على ما تقول الميتولوجيا الوحدوية، فإن الخريطة الجديدة تُرسم على طاولة لقاء افتراضي بين دونالد ترامب وقاسم سليماني وأبو بكر البغدادي. لا مصالح مباشرة يتم البحث فيها على نحو ما فعل المستعمرون القدماء، واللقاءات تجري في أعقاب كل موت جديد، ويبحث فيها ما أنجزته المجزرة من احتمالات.
دير الزور سلخها المستعمر القديم عن عمقها العراقي وضمها لسورية، وطرابلس اللبنانية أهداها ذلك المستعمر للكيان اللبناني. جرى ذلك بموازاة مرارة شعر بها السكان، لكنها لا ترقى على الإطلاق لمرارة عشيرة الشعيطات في دير الزور التي أنزلت بها «داعش» مجزرة الألف قتيل، ولا توازي طبعاً حرقة نادية مراد.
لن يستأنف الناس عيشهم وفق الخريطة الجدية. ثمة مدن شبه مدمرة وثمة تاريخ لم يعد له أثر. والأهم أن ثمة علاقات صارت مستحيلة. فقد اخترقت الجسور الامبراطورية الإيرانية الجماعات وأحالتها كتلاً سكانية غير منسجمة وفاقدة لهوياتها المحلية، فيما تولى «داعش» مهمة تدمير ما تبقى من تجارب عيش مشترك.
حازم صاغية
الحياة اللندنية