بينما تصل معركة استعادة الموصل من “داعش” إلى نهاية دموية، يشهد العالم كوكبة من أهوال الحرب: ضربات جوية أميركية يمكن أن تسفر عن خسائر بشرية مرتفعة بشكل غير متوقع؛ وحدات عراقية متهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان؛ واعتراف قاتم بأن الأسوأ في القتال ربما ما يزال أمامنا. وبالإضافة إلى ذلك، يظهر تفجير مانشستر أن التهديد الإرهابي الذي يشكله “داعش” سيستمر لوقت طويل على الأرجح بعد أن يرخي التنظيم الإرهابي قبضته عن الأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسورية والأماكن الأخرى في الشرق الأوسط.
وحتى لو بدا أن الولايات المتحدة والقوى الحليفة تسير على طريق هزيمة “داعش” واستعادة الموصل، فإن حصيلة الموت المريعة والهائلة التي أوقعها “داعش” في كل أنحاء العالم تثير سؤالا واضحا: هل كان من المحتم على الرئيس باراك أوباما وخليفته الرئيس دونالد ترامب أن يتعاملا مع تهديد “داعش”، أم أن خيارات أخرى لصانعي السياسة الأميركية كان يمكن أن تسفر منطقياً عن تنظيم “دولة إسلامية” أقل فتكاً بما لا يقاس؟
هذا هو السؤال الذي الذي تناولناه، هال براندز (الذي يُداخل في موقع “حكومة الظل”) وأنا في مقالة حديثة لمجلة “سيرفايفال”، التي يصدرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بعنوان: “هل كان صعود الدولة الإسلامية حتميا”؟
في أطروحتنا، نقول إن التهديد الذي يشكل “داعش” الآن لم يكن حتمياً. ونتحمل الكثير من العنت في سبيل إثبات كيف أن خيارات مختلفة للرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما كان يمكن أن تحبط تهديد “داعش” قبل وقت طويل من وصول التنظيم إلى ذروته في أواخر العام 2014. ولا ينقل أي شيء في أطروحتنا المسؤولية عن الحصيلة من الإرهابيين، حيث تنتمي، إلى صانعي القرار الأميركيين الذين كان يمكنهم اتخاذ قرارات مختلفة، والتي كان من شأنها أن تعطل الإرهابيين بطريقة أكثر فعالية. لكن التقييم الواعي لمواطن تقصير السياسات الأميركية يشكل جزءا حاسما من التحليل الذي يجريه السياسي، وهو شأن أساسي للقيام بعمل أفضل ضد أي تهديدات إرهابية تنشأ بعد “داعش”.
نركز في أطروحتنا على العوامل القريبة، خاصة القرارات الرئيسية التي تم اتخاذها منذ العام 2002، حتى مع أن الحقيقة الواضحة هي أن الأسباب العميقة لظهور تنظيم “داعش” تعود وراءاً إلى عقود، إن لم تكن قرونا. وكلما كان الاختيار أقرب، كلما زادت الثقة التي يمكن أن يتحلى بها المرء في تقييم النتائج المحتملة للسياسات البديلة. كما أننا نركز أيضا على خيارات السياسة الأميركية، حتى مع أن من شبه المؤكد أن الخيارات التي اتخذها لاعبون آخرون كانت لها تداعيات مهمة بنفس المقدار على الأقل، وربما أكثر بكثير. إننا ننخرط في تحليل السياسة الخارجية، وليس التاريخ الكبير. ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً أمام صانعي السياسات الأميركيين هو: ما الذي يستطيعون أن يفعلوه بشكل مختلف.
في بحثنا، ننظر في قراراتنا الأربعة الرئيسة:
– قرار بوش غزو العراق في العام 2003، إلى جانب مشكلات إدارة السياسة التي ولدها الغزو مباشرة بعده.
– قرار أوباما فك الارتباط من العراق والمضي قدما بالانسحاب شبه الكامل من العراق في العامين 2010 و2011.
– قرار أوباما عدم التدخل بطريقة أكثر قوة في الحرب الأهلية السورية خلال المرحلة المبكرة (ما قبل 2013) من ذلك الصراع.
– قرار أوباما في أواخر العام 2013 والعام 2014 عدم مواجهة “داعش” بينما كان يقوم بتنفيذ اجتياحه شرقا عبر سورية والعراق.
في تحليلنا، نخلص إلى أن تبني خيارات سياسية أخرى في كل واحدة من نقاط الانعطاف هذه كان يمكن أن تقلل، وربما تتجنب ظهور التهديد الذي يشكله “داعش” الآن، ولو أن ذلك لن يكون في بعض الحالات بالقدر الذي يقترحه المنتقدون، وليس من دون تداعيات سلبية محتملة أخرى. لكن تحليلنا كان أكثر دقة من تلك التحليلات التي برزت في المناظرات والصراخ والتضارب في برامج تلفزيون الكيبل.
بطبيعة الحال، تمتعنا في بحثنا بميزة تأمل الأمور بعد حدوثها، لكننا جهِدنا في سبيل التركيز على البدائل التي كان قد رشحها بعض الخبراء فعلياً في داخل الإدارة وخارجها في ذلك الحين، حتى نجعل من هذا البحث تمرينا تحليليا أكثر إنصافاً وإفادة.
خلصنا إلى أن لدى منتقدي بوش فكرة عادلة: لقد عمل غزو العراق، ثم الصعوبة اللاحقة في إعادة تأسيس نظام سياسي مستقر لما بعد الأزمة بسرعة، على خلق الظروف التي أتاحت صعود تنظيم القاعدة في العراق، سلف تنظيم “الدولة الإسلامية”.
ومع ذلك، كان منتقدو بوش، وخاصة أوباما، مخطئين عندما ذهبوا إلى تأكيد أن غزو العراق هو الذي جعل صعود تنظيم “داعش” حتميا.
على العكس من ذلك، نبيِّن في تحليلنا كيف أن خيارات مختلفة، وإنما معقولة تماماً، لو اتخذتها إدارة أوباما لكان يمكن أن تجعل من الأصعب على “داعش” أن يصبح قوياً كما فعل في العام 2014. ووجدنا أن سياسة أوباما تكونت من مجموعة القرارات التي أفضت إلى الفشل في تعزيز النجاح المكتسب بشق الأنفس في العراق –والذي تحقق بكلفة كبيرة خلال السنوات الأخيرة من ولاية بوش وبواكير ولاية أوباما. وكان ذلك النجاح حقيقيا –حقيقيا جدا في واقع الأمر بحيث أنه ربما أغوى إدارة أوباما إلى الاعتقاد الخاطئ بالثقة المفرطة في قوتها- لكنه كان نجاحاً هشاً، وكان يحتاج إلى وجود أميركي أكثر ديمومة للحفاظ عليه.
ربما كانت سياسات مختلفة ينتهجها أوباما في سورية، ولاحقا في العراق، لتعيق بشكل أفضل صعود “داعش”، لكننا نبيّن كيف أن تلك السياسات البديلة كانت تنطوي على سلبيات محتملة أيضاً، وهو ما يجعل الحسابات أكثر اختلاطا.
لم تكن مقالتنا تنتمي إلى الجدال بين الحزبين. كنتُ من المعينين السياسيين في إدارة بوش وكان براندز من المعينين السياسيين في إدارة أوباما. وبالإضافة إلى ذلك، عرضنا أطروحتنا على صانعي قرار رئيسيين من كل من حقبتي بوش وأوباما حتى نتأكد من أننا تنبأنا بكل الأطروحات المضادة التي ربما يريد أن يعرضها أولئك المسؤولون عن القرارات.
مع ذلك، تصف المقالة مأساة. ليست الولايات المتحدة مسؤولة عن صعود “داعش”. وليست الولايات المتحدة مطلقة القوة وقادرة على منع حدوث أي شر في العالم. إنها بعيدة عن ذلك. لكن سياسات أميركية مختلفة كان يمكن لو تم انتهاجها أن تضع أميركا في وضع أفضل في المعركة ضد “داعش”. ولن تساعد معرفة الكيفيات في جعل هزيمة التنظيم الإرهابي أسهل الآن، لكنها ربما تساعد صانعي السياسة في اتخاذ أفضل الخيارات بين مجموعة من البدائل التي سوف يواجهونها بمجرد أن يتم الانتهاء من التعامل مع “داعش”.
بيتر فيفر
صحيفة الغد