عندما اشتدت الحرب النازية على بريطانيا، وقف رئيس وزرائها ونستون تشرشل المكلف حديثاً آنذاك أمام مجلس العموم وقال في خطاب الثقة: «ليس لدي ما أعدكم به سوى الدماء والكدّ والدموع والعرق». كان ذلك في 13 أيار (مايو) 1940. وثقت البلاد آنذاك بتشرشل وأسلست له قيادها، الى نصر تحقق بعدها بخمس سنوات.
ليس في وسع زعيمة المحافظين الحالية تيريزا ماي اعتماد خطاب يطلب من الجمهور هذا المقدار من الصبر والجهد، على أبواب الانتخابات بعد غد الخميس، ذلك أنه مع فوارق الظروف التاريخية التي أملت خطاب تشرشل، تبدو بريطانيا مضطرة لاجتياز تجربة على المقدار ذاته من الأهمية، تتمثل بلملمة أمورها في ظل قرار الطلاق مع أوروبا، فيما تواجه ضربات الإرهاب المتكررة والتي تمثل بحد ذاتها حرباً ظلامية كحرب النازيين.
تطلب الأمر سلسلة اعتداءات إرهابية لتضع رئيسة الوزراء المحافظة إصبعها على الجرح، مؤكدة أن «ثمة كثيراً من التسامح مع التشدد» في بريطانيا. وفي المقابل هناك اعتقاد سائد بأن لندن «جنت على نفسها» باحتضانها تاريخياً، تيارات متسترة بالدين لاستخدامها في السياسة.
ولا شك في أن البريطانيين شعروا بعد نتيجة الاستفتاء التاريخي حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بضرورة التمعن في خياراتهم، الأمر الذي عكسه تراجع التوقعات باكتساح فريق ماي نتائج الانتخابات على وقع الضربات الإرهابية. لذا فإن تذبذب خيارات الناخبين في استطلاعات الرأي في شكل جعل النتيجة غير محسومة لمصلحة الحكومة الحالية، مرده أنه عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي فإن هناك ميلاً طبيعياً لدى البريطانيين الى تفضيل حُكم المحافظين، لكن في الوقت ذاته، ثمة ثقة مفقودة في خطة هؤلاء لإدارة شؤون الاقتصاد من دون تكبيد البلاد خسائر فادحة في عملية تلمّس الطريق الصواب للخروج من أوروبا، في غياب مشروع معدٍ لذلك سلفاً.
وكانت الخيبة الكبرى بأن الذين سوقوا لعملية الخروج وأوهموا الناس بفوائدها، لم يمتلكوا خطة لـ «اليوم التالي»، لذا تعيّن على ماي اختيار حلول جذرية تمثلت بعزم على قطيعة كاملة مع «شركاء الأمس» في أوروبا، الأمر الذي أتاح لحزبي «العمال» و «الديموقراطيين الأحرار» فرصة نادرة، للانقضاض على أسلوب رئيسة الوزراء في التعامل مع انعكاسات مشروع الطلاق الأوروبي.
كذلك تبددت أوهام الحديث عن إغلاق الحدود أمام «مد اللاجئين من شرق القارة»، بعدما تبيّن أن ثمة نوعية من اللاجئين داخل بريطانيا، ربما يكون الأحرى بأوروبا السعي الى إغلاق حدودها في وجوههم!
لا شك في أن أياً من السياسيين البريطانيين لن يحاول استغلال الاعتداءات الأخيرة في حملته، لئلا ينعكس ذلك عليه سلباً، لكن ثمة قناعة متزايدة لدى الناس بأن محاربة الإرهاب تقتضي التحالف مع دول القارة، وأن الشركاء الأوروبيين سيطلبون من لندن معاملة بالمثل لقاء تبادل المعلومات والتنسيق أمنياً. وخلاصة الأمر أن بريطانيا لن تصبح جزيرة معزولة وهي لم تكن كذلك قط. وبالتالي فإن قرار التخلي عن الاتحاد الأوروبي كان بمثابة السير عكس منطق التاريخ.
إبان الحرب العالمية الثانية، قاد تشرشل بلاده في فترة معاناة، تعرضت خلالها العاصمة البريطانية لغارات مكثفة من الطيران النازي استمرت تسعة أشهر بين 7 أيلول (سبتمبر) 1940 و21 أيار 1941، وذلك بعدما قرر هتلر توسيع عملية «هجوم النسر» التي كانت تستهدف الطيران الحربي البريطاني الى استهداف لندن بناسها ومنازلها ومقارها الرسمية. وشكلت بداية قرار النصر في حرب الوجود تلك، قناعة الدول الأوروبية مجتمعة بضرورة التحالف حفاظاً على المصير المشترك. فهل يقول البريطانيون كلمتهم في هذا الاتجاه؟
سمير السعداوي
صحيفة الحياة اللندنية