لا تُعرف على وجه الدقة الأسباب التي تحمل تيارات سياسية شيعية على مبادرات إصلاح سياسي هي بمثابة قطع للغصن الذي تجلس عليه، وهل مثل هذه المبادرات تمثل أملاً للمجتمع الشيعي الذي لم يحقق له حكم نفسه بنفسه حياة أفضل.
المعروف على وجه الدقة أن مبادرات كالتي يدعو إليها تيار كالتيار الصدري على علاقة بمعالم فشل ضربت العراق منذ 2003، وأنها تحمل اتهاماً مبطناً للجهة التي تحكمت بالمشهد السياسي وهي المرجعية الشيعية التي صارت دولة داخل الدولة ونظاماً موازياً للحكومة المركزية.
أهم من الاتهام السياسي المبطن للمرجعية الاتهام الجماهيري الشيعي الصريح والقاسي، بأنها من زكى رموز الفساد وأوصلهم إلى الحكم وعصمهم من القانون، ومع ذلك تبقى المرجعية في منأىً عن المساءلة القانونية حول ضلوعها في أدوار خارج تخصصها، وبلا وصفة علاجية لدورها المربك للدولة حين تريد الدولة التعافي والنهوض. فهي تبقى قادرة على إصدار الفتاوى التي تحولها الدولة إلى قوانين.
في مطلع القرن الماضي كان للمرجعية دور مشابه عند تأسيس أول حكومة عراقية إبان الانتداب الإنكليزي. لم تكن في المجتمع الشيعي حينذاك كفاءات ثقافية أو إدارية تمكنه من إدارة دولة فضلاً عن قيامه هو بتأسيسها. حينها كانت المرجعية القيادة الفقهية والسياسية والاجتماعية للمجتمع الشيعي كما حال الجامع بالنسبة الى الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية. ومثلت قيادة المرجعية للمجتمع الشيعي أمراً واقعياً في غياب بدائل مدنية وفيما كان المجتمع الشيعي يعتبر الحرب العالمية الأولى التي أسقطت الدولة العثمانية بمثابة حرب استقلال من نظم الحكم السنية التي توالت منذ صدر الإسلام.
لم يكن إسخاط الشيعة رغبة عند الاحتلال الانكليزي، غير أنه حرص، ضمن مصالحه، على إدخال العراق في طور الانتداب الذي من متطلباته إيجاد نظام سياسي وحكومة، وكان على الإنكليز الاختيار بين أمرين: خيار ضامن للنجاح السياسي ومقترن بإسخاط الشيعة، وهذا خيار أصحاب الكفاءات، وخيار يرضي الشيعة (الذين لم يكونوا في وضع ثقافي جاهز) لكنه يقترن بالإخفاق. وقع الخيار على استخدام الطوب (المتوافر) الناجم عن هدم الجدار العثماني، أي الأطقم الإدارية السنية التي أدارت مؤسسات الدولة العثمانية، لتأسيس حكومة وبرلمان عراقي بقيادة الملك فيصل، لكن المراجع الشيعية رفضت برلماناً يهيمن عليه أصحاب الخبرات وأصرت على برلمان تكون لمرشحيها الهيمنة فيه. ووفق تقرير سري لسلطة الاحتلال «فسبب رفض مراجع الشيعة حكم الملك فيصل هو رغبتهم في إيجاد حكومة ضعيفة تتمكن ثقافتهم الفقيرة عبرها التحكم بالقبائل واستغلالها».
بعد مضي 6 أعوام على الاستقلال وتشكيل حكومة، كانت المرجعية لا تزال تتمسك بمطلب برلمان يهيمن عليه مرشحوها. وأصاب الذهول إدارة الانتداب حيال مدى استعدادها لتقديم المصلحة المذهبية على المصلحة الوطنية، وفقاً للمندوب السامي الذي كتب إلى حكومته في لندن في 15 تموز (يوليو) 1927: «قبل بضعة أسابيع زارني قيادي شيعي وقال لي: ندرك أنه ليس بيننا متعلمون ولسنا في وضع نقدر فيه على شغل حصتنا الحقيقية في مؤسسات الدولة، ومطالبنا هي أن تعيد بريطانيا احتلال العراق لحمايتنا من الهيمنة السنية إلى أن يصبح أبناؤنا متعلمين».
ولم يكن اختلال نسبة التمثيل الشيعي في الدولة الوليدة موضع خلاف عند السنة (مصطلح السنة حينئذ شمل العرب ومعهم الأكراد والتركمان) الذين أسسوا الدولة، لكن تعاملهم مع هذا الاختلال كان بحسابات مختلفة عن المرجعية، وكانت لذلك التعامل مظاهر مبكرة في الثلاثينات أثارت انتباه من زار بغداد، لا سيما من غير السياسيين. وقد دوّن الأديب المصري المعروف أحمد حسن الزيات في مذكراته رؤيته مسؤولين يشغلون مواقع مهمة لكنهم لا يملكون وزناً ثقافياً مكافئاً، وعرف عند الاستفسار أن الحكومة تهدف إلى الموازنة في التمثيل الوظيفي في مؤسسات الدولة بين جميع مكونات المجتمع على رغم ضعف الكفاءة الثقافية الشيعية.
السقوط المفاجئ للدولة العثمانية مطلع القرن الماضي وضع المرجعيات الشيعية وجهاً لوجه مع واقع لا خبرة لها فيه هو واقع الحكم وإدارة الدولة، وفي 2003 أعاد السقوط المفاجئ للعراق الواقع نفسه ووضع المرجعية وجهاً لوجه مع ظرف أصعب كانت فيه الدولة المدنية وعلى مدى 9 عقود نقلت المجتمع الشيعي بعيداً من ثقافة الأقلية إلى ثقافة المجتمع الكبير، ولم تعد قداسة وفتاوى المرجعية كافية كي ينظر المجتمع الشيعي إلى الأشياء كما تريدها، ما جعل اعتمادها على الأقل تعليماً وغير المتعلمين مسألة مصيرية، وهو ما ترجمته الحاجة إلى الميليشيات التي صارت حشداً ثم جيشاً، ويراد لها أن تصبح قوة سياسية تنتزع الدور من المثقفين، وأصبحت الحسينيات التي هي دور عبادة دوائر يتم فيها التجاوز على سيادة الدولة في حفظ الحقوق العامة، ما يجرّد مبادرات الإصلاح من الإمكانية والواقعية.
الشريحة الاجتماعية في المجتمع الشيعي التي فرزت المتميزين، كفاضل الجمالي وعلي الوردي وسعدون حمادي، ما زالت موجودة على رغم الضمور الذي يجتاحها، بعكس النمو الذي تمتعت به في القرن الماضي، غير أن صعودها لا يمر عبر آليات المرجعية، ما يجعل الأخيرة عثرة في طريق الناجحين من أبناء الشيعة الذين تألقوا في أجواء الدولة العراقية المدنية التي رسمت حدوداً للمرجعية تنسجم مع طبيعتها وحمت مواهب المجتمع المدني الشيعي. وقد بلغت درجة إحساس الشيعي بحرية الحكم على الأشياء خارج النفوذ الثقافي للمرجعية حداً جعلت ابن كربلاء يتغلب على هواجس الثقافة المحلية ويتجاوز تحذيرات الأصدقاء ويقبل وظيفة في مدينة الموصل، ليكتشف أن الحياة في عمق الوسط الاجتماعي السني ليست فقط ممكنة بل إن فيها ما لا يجده في بيئته وما بات جزءاً لا مناص عنه في نمط عيشه الجديد، بحيث يشتري داراً في الموصل ويتخذها مستقراً له.
ما تكرر وقوعه في مدى أقل من قرن ظاهرة تضبطها قواعد الاجتماع السياسي، وهو أن المؤسسة (المرجعية) التي وجدت أساساً لإدارة شؤون أقلية (الشيعة) في وسط مجتمع كبير (السنة) لا تملك ثقافة التعامل مع المجتمع الكبير ولا فنون إدارته ولا فرصة الوصول إلى قمة الهرم من دون تدخل قوة خارجية، وهو ما حدث مع الاحتلال الأميركي الذي دخل في شراكة مع المرجعية دخلت الدولة معها في حقبة فشل.
تغيرات عميقة حدثت في المجتمع الشيعي على مدى 9 عقود من الدولة المدنية. لم يعد الشيعة تلك الأقلية التي اعتزلت المدرسة في العهد العثماني بتوجيه المرجعية، والمعطيات التي حاولت المرجعية تسخيرها بلا نجاح مطلع القرن 20 اختلفت هي الأخرى، ولم تعد المرجعية أكفأ من يقود المجتمع الشيعي بوجود تيارات مدنية أنتجتها الدولة المدنية، وفيما بات يدرك الشيعي العراقي أن نظامه الاجتماعي الذي تتوغل فيه مؤسسة المرجعية غير قابل أو مؤهل لقيادة دولة.
هذه القناعة تترجمها اليوم في ساحات بغداد دعوات لشرائح شيعية متنامية الحجم تتحرك خارج فضاء المرجعية وتنادي بالعودة إلى مدنية الدولة، وعملها لا يحوز على إعجاب المرجعية. وعدم الإعجاب هذا نفسه كان من نصيب رموز شيعية في القرن الماضي اختارت أن تكون على مقربة من الدولة المدنية كجعفر أبو التمن.
ما قاله الاحتلال الإنكليزي في مكاتباته السرية عن المرجعية وتقديمها للحسابات المذهبية يردده الشارع الشيعي اليوم أمام عدسات التصوير بعدما تأكد أن التعليم والوظيفة والصحة والأمن والسكن ذهبت جميعها ضحية لفساد تزكيه المرجعية أو تغض الطرف عنه. الشعارات التي يرفعها هذا الشارع تزداد وضوحاً وصراحة مع الأيام وليس الأشهر.
ربيع الحافظ
صحيفة الحياة اللندنية