على وقع تقدم الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، يجري ترتيب الساحة السياسية العراقية استعدادا للانتخابات المحلية والبرلمانية التي ستكون أهم حدث لدخول مرحلة ما بعد داعش. في خضم هذا المشهد، عاد مصطلح “الأغلبية” إلى الواجهة بعد هيمنة مصطلح “التسوية” عليه لنحو سبعة أشهر، منذ أطلقه زعيم المجلس الأعلى عمار الحكيم في نوفمبر 2016.
ويتبنى حاليا زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي الترويج لمشروع أغلبية سياسية، يمكن أن يجمعه بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني عن الأكراد وحركة الحل بزعامة جمال الكربولي عن السنّة، وربما جزء من الحزب الإسلامي، يقوده رئيس البرلمان سليم الجبوري. ووفقا للمالكي، فإن هذه الأغلبية السياسية تراعي التمثيل الطائفي، ولكنها لا تستوعب جميع القوى.
الأغلبية بديل عن التسوية
حاول الحكيم طرح مشروع “التسوية” ليكون بديلا عن “الأغلبية”، بما يضمن مشاركة جميع ممثلي ألوان الطيف العراقي في إدارة البلاد، وهي الوصفة التي يعتقد أنها كفيلة بإزالة الاحتقان المجتمعي. وبعد مرور سبعة أشهر على طرحه عاد الحكيم نفسه إلى الحديث عن “الأغلبية”، بعدما أيقن عدم جدوى “التسوية”.
وبدا فشل مشروع التسوية واضحا عندما تجاهل الساسة الشيعة أهم بنودها المتعلقة بـ”الالتزامات المتبادلة بين الأطراف” و”رفض مبدأ التنازل أحادي الجانب وفق مبدأ لا غالب ولا مغلوب”. وحافظ الخطاب السياسي الشيعي على لهجة المنتصر، مع تطورات الحرب على داعش، كما هيمنت نغمة “المنة” على أخبار استعادة المناطق ذات الأغلبية السكانية السنية، التي يذيعها قادة عسكريون ومسؤولون خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما بدد أي فرص للتوافق بين الفرقاء.
فشل مشروع التسوية بدا واضحا عندما تجاهل الساسة الشيعة أهم بنودها المتعلقة بـالالتزامات المتبادلة بين الأطراف
عندما كان الحكيم يمهد لطرح مشروع التسوية، في أكتوبر 2016، عمل على تسريب أفكاره في جلسات خاصة مع ساسة وصحافيين وأكاديميين، معبرا عن استعداده للذهاب إلى أبعد مدى من أجل تحقيق هذه التسوية، التي كان يقول إنها أكبر من المصالحة وأشمل منها.
ولدى سؤاله عن إمكانية أن تشمل هذه التسوية شخصيات مطلوبة للقضاء العراقي، كان يبتسم قبل أن يقول “وما الجدوى إن لم تفعل ذلك..!”. ولكن في الحقيقة، كان هذا الأمر صعبا للغاية على الحكيم، الذي ما لبث أن عاد إلى استخدام لغة متشددة بحق من يسميهم “أعداء العراق والعملية السياسية”، وهي أوصاف عادة ما تطلق على المعارضين، ولا سيما من الساسة السنة.
ويستهدف مشروع الحكيم في إطاره العام “تسوية سياسية ومجتمعية ترمي إلى عراق متعايش خال من العنف والتبعية، وتنجز السلم الأهلي وتوفر البيئة المناسبة لبناء الدولة، وتشارك فيها جميع فئات المجتمع العراقي العرقية والدينية والمجتمعية”، ولكنه وفقا لمطلعين على تفاصيل مشاورات خاصة، “كان يحاول حسم جدلية التمثيل السياسي السنّي، ومن هي القوى الأحق بذلك، هل هي قوى الداخل التي تتفاعل مع القوى السياسية الشيعية والكردية، أم قوى الخارج التي تعارض السياسة العامة وتطالب بتعديل الدستور، وإعادة التفاوض بشأن توزيع الأدوار والحصص على جميع المكونات؟”. ويقول مقربون من الحكيم إن “زعيم المجلس الأعلى كان يعتقد أن الاتفاق على مفاوض سني يجلس مع الشيعة والأكراد، هو بداية للاتفاق على كل شيء”.
ويقول مراقبون لتطورات ملف التسوية، الذي تبنته بعثة الأمم المتحدة الدائمة في العراق، وحاولت تسويقه داخليا وخارجيا، إن المشكلة في هذا النوع من المشاريع تكمن في صعوبة تحقيق إجماع داخلي حوله بسبب التأثيرات الخارجية، فطيف القوى السياسية في العراق موزع على ولاءات إقليمية ودولية متعددة ومتقاطعة ومتصارعة. وحاول الحكيم أن يحشد دعما خارجيا لمشروعه، وعرضه فعليا على الأردن وإيران، لكن ذلك لم يكن كافيا لتمريره. ويقول محمد الصيهود، وهو نائب في البرلمان العراقي عن ائتلاف دولة القانون المنضوي في التحالف الشيعي الحاكم، إن “عرض مبادرة التسوية السياسية على الدول الإقليمية جاء لتأثير تلك الدول في المواقف الداخلية”.
ويضيف أن “الدول الإقليمية لها تأثيرات داخل العراق من خلال بعض الأطراف السياسية، لذا يأتي عرض مبادرة التسوية عليها لغرض حصول توافق داخلي”.
أحد أسباب فشل مشاريع التسوية بين القوى السياسية العراقية استثناءات الرفض الكثيرة التي تتضمنها هذه المبادرات
الشريك الأكبر
يقول مراقبون إن موافقة جميع القوى الشيعية العراقية على تبني مشروع التسوية تشترط إخضاع القوى السنية والكردية لمفهوم “الشريك الأكبر”، الذي يمكن له احتكار السلطة والقرار أو الأجزاء الأكبر منهما.
ويقول الكاتب والمحلل أنس الشيخ إن التحالف الشيعي قدم بنود مبادرة تسوية متعلقة بالسنة والأكراد صيغت لتؤدي إلى “إخضاعهم أكثر لسلطة التحالف الوطني”، مشيرا إلى أن معظم بنود التسوية هي من مسؤولية الحكومة التي يحتكر التحالف الشيعي حق رئاستها، فلماذا يطلب من السنة والأكراد تنفيذها؟ وتتحدث مبادرة التسوية التي أطلقها الحكيم عن “الالتزام بالدستور كمرجعية والعمل به بعيدا عن الانتقائية والالتزام بقيم التسامح وإدانة ورفض المنهج التكفيري وسيادة القانون والعمل على توزيع الصلاحيات وتطبيق اللامركزية، والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحكم الرشيد واللجوء إلى الوسائل السلمية والقانونية للتعبير عن الرأي، ورفض استخدام العنف كورقة سياسية والالتزام بوحدة العراق والالتزام بالدستور دون انتقائية والحفاظ على سيادة العراق واستقلال قراره وهويته ونظامه الديمقراطي البرلماني الفيدرالي، والالتزام بأن النفط والغاز ملك للشعب ومراعاة المحافظات المنتجة والتنديد بنظام البعث”.
ويقول الشيخ إن “كل هذه البنود التي كررتها المبادرة موجودة في الدستور، ولو طبقها التحالف في توقيتها المناسب سابقا لما وصلت الأمور إلى ما وصل إليه العراق اليوم”. ويعتقد مراقبون أن أحد أسباب فشل مشروع التسوية واستمرار دوران القوى السياسية العراقية في فلك التأثيرات الإقليمية استثناءات الرفض الكثيرة التي تضمنها.
ويقول الكاتب والمحلل عبدالستار رمضان إن “ما يسجل على هذا المشروع كثرة اللاءات التي تضمنها والتي لا تتوافق أو تنسجم مع مقدمة وبنود المشروع”.
وينقل رمضان عن نص المشروع أن التسوية “لا تشمل الخونة والمتآمرين والإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بدماء العراقيين، ولا عودة ولا حوار ولا تسويات مع حزب البعث أو داعش أو أي كيان إرهابي أو تكفيري أو عنصري ولا تشمل المطلوبين للقضاء، وتمثيل الأطراف العراقية يجب أن يخضع للقبول بالثوابت الواردة بهذه المبادرة”، مشيرا إلى أن الأطراف العراقية لم تصل إلى “اتفاق أو تعريف مقبول من جميع الأطراف للخونة والمتآمرين والإرهابيين والتكفيريين والعنصريين والمطلوبين للقضاء”.
صحيفة العرب اللندنية