بفوز الحركة السياسية التي أسسها ويقودها إيمانويل ماكرون بغالبية المقاعد في الانتخابات التشريعية الفرنسية التي انتهت جولة الإعادة فيها يوم الأحد الماضي، أصبح الرئيس الفرنسي الشاب في وضع يسمح له بالسيطرة على مجمل مفاتيح السلطة في النظام السياسي الفرنسي، ومن ثم تحول إلى ظاهرة سيتوقف المؤرخون وعلماء السياسة والاجتماع عندها كثيراً للتأمل والتحليل ومحاولة الفهم. فإيمانويل ماكرون شاب لم يتجاوز الأربعين من عمره، حديث العهد بالنشاط السياسي المباشر، ويمكن القول إنه صنع نفسه بنفسه بعيداً من معامل التفريخ التقليدية للكوادر والزعامات السياسية، وليس لديه ولع بالأفكار الأيديولوجية المعلبة التي عادة ما تتغذى عليها أطروحات اليمين واليسار على حد سواء. ومع ذلك فقد نجح هذا الشاب، وفي غضون أشهر قليلة، في تشكيل حركة سياسية أطلق عليها «إلى الأمام» En Marche تمتعت على الفور بزخم هائل مكَّنه أولاً من الوصول إلى الإليزيه، ثم مِن السيطرة بعد ذلك على البرلمان الفرنسي. وتلك ظاهرة غير مألوفة في الحياة السياسية، سواء داخل فرنسا أو خارجها. صحيح أن مجتمعات كثيرة شهدت من قبل أزمات لم تتمكن من حلها إلا عبر استدعاء «بطل منقذ»، لكن صورته الذهنية كانت حتى وقت قريب تبدو مستوحاة من منجزات تاريخية ملموسة ومقدرة جماهيرياً. وفي هذا السياق يمكن فهم الأسباب التي حدت بالمجتمع الفرنسي إلى استدعاء الجنرال ديغول، بطل المقاومة ضد النازية ورمزها، لإخراج فرنسا من مستنقع الأزمة الجزائرية التي كانت انغرست فيها. كما يمكن فهم الأسباب التي دفعت المجتمع الأميركي لتقديم وانتخاب الجنرال إيزنهاور، أحد أهم الرموز العسكرية في الحرب العالمية الثانية، ليقود الولايات المتحدة في مرحلة احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. لكن يبدو أن لظاهرة العولمة منطقاً آخر وأنها بدأت تساعد على إنضاج نمط جديد من الزعامات والقيادات السياسية المؤهلة للقيام بدور «البطل المنقذ» في مرحلة ما بعد الأيديولوجيات. يجسد ذلك النمط حالياً إيمانويل ماكرون في صورة تكاد تكون نموذجية. كانت فرنسا، قبل ظهور ماكرون على مسرحها السياسي، تواجه أزمة متعددة الأبعاد، بدت وكأنها تمهد الطريق لوصول اليمين المتطرف إلى أعلى مفاصل السلطة فيها. والحقيقة أن هذه الأزمة لم تقتصر على فرنسا وحدها وبدت وكأنها جزء من أزمة عامة تواجه المجتمعات الغربية المتقدمة في مجملها، وبخاصة أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، ربما بسبب تراكم الإفرازات السلبية لظاهرتي العولمة، من ناحية، والإرهاب، من ناحية أخرى. ومن المملكة المتحدة جاءت أولى الضربات الكاشفة عن وجود وعمق هذه الأزمة، حين صوتت غالبية الناخبين لمصلحة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أما ثاني هذه الضربات فجاء من الولايات المتحدة نفسها، حين صوتت غالبية الناخبين لمصلحة رجل أعمال يميني عنصري متطرف اسمه دونالد ترامب، الذي أصبح الرئيس الفعلي لأقوى دولة ظهرت على وجه الأرض. وقتها اعتقد كثيرون أن رياح الأفكار اليمينية المتطرفة والعنصرية، والتي كانت بدأت تهب منذ بعض الوقت، على وشك اكتساح العالم كله، ومن ثم توقعوا أن تحمل هذه الموجة شخصيات من نوع مارين لوبن ليس فقط إلى قصر الإليزيه وإنما إلى بيوت الحكم في العديد من الدول الأوروبية. لكن لم يتوقع أحد أن يفرز المجتمع الفرنسي ظاهرة جديدة اسمها ماكرون وأن تنجح هذه الظاهرة، مرحلياً على الأقل، في وقف الزحف اليميني على أوروبا وربما على العالم أيضاً.
اليوم، وبعد أشهر قليلة من ظهور ماكرون على مسرح السياسة الفرنسية، يبدو شكل النظام السياسي الفرنسي، وفي القلب منه خريطة وبنية وموازين القوى السياسية، مختلفاً تماماً في اللحظة الراهنة عما كان سائداً من قبل. فقد تراجعت القوى المتطرفة، يميناً ويساراً، وتحولت إلى شرازم متفرقة تصارع هنا وهناك من أجل البقاء ولم تعد تشكل أي تهديد جدي للنظام، مثلما كان عليه الحال من قبل. وحتى اليمين المعتدل، الذي أصبح يشكل الآن قوة المعارضة الرئيسة للغالبية الحاكمة، يلاحظ أنه لم يحصل على ما يكفي من المقاعد لتمكينه من الدخول في لعبة تحالفات تهدد استقرار واستمرارية نظام أصبحت تقوده غالبية برلمانية مريحة مؤيدة للرئيس أو تابعة تنظيمياً للتيار الذي أسسه. وهكذا أصبح ماكرون في وضع يسمح له بالشروع فوراً في إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية واسعة النطاق، كان وعد بها الناخبين في حملته الرئاسية، وأمامه خمس سنوات كاملة للقيام بهذه المهمة من دون أخطار تذكر.
يدرك الرئيس ماكرون، وهو ما بدا واضحاً تماماً من الخطاب السياسي الذي ميَّز حملته الانتخابية، أن الإصلاحات الداخلية المطلوبة لإنقاذ فرنسا من الوقوع مستقبلاً في براثن القوى المتطرفة، ترتبط ارتباطاً عضوياً بإصلاح وتجديد البنية المؤسسية للاتحاد الأوروبي الذي يواجه الآن تحديات وجودية، بخاصة بعد انسحاب المملكة المتحدة منه، ومن ثم عليه السير والتحرك إلى الأمام في اتجاهين متوازيين: الأول: إصلاح النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الفرنسي من داخله، اعتماداً على الغالبية البرلمانية المريحة التي أصبح يسيطر عليها من دون منازع. والثاني: إصلاح الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع القوى الأوروبية صاحبة المصلحة في وجود واستمرار أوروبا قوية مستقلة، خصوصاً ألمانيا. لذا ينتظر أن يتصدر العمل على تطوير العلاقات الفرنسية- الألمانية، باعتبارها القاطرة التي يمكنها قيادة الاتحاد الأوروبي وجر عرباته إلى شاطئ الأمان، جدول أعمال السياسة الخارجية في عهد ماكرون. وتلوح اليوم فرصة كبيرة أمام ماكرون لإعادة إحياء وتجديد الأطروحات الديغولية التي استهدفت بناء أوروبا قوية ومستقلة عن كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الذي تسيطر عليه، وذلك بالتعاون مع ألمانيا هذه المرة، وهو البعد الذي لم يكن متاحاً في زمن ديغول. فمن المعروف أن الأخير وقف بالمرصاد للحيلولة دون انضمام بريطانيا الى السوق الأوروبية المشتركة، واضطر لاستخدام حق الفيتو مرتين لإجبار بريطانيا على البقاء خارج العملية التكاملية الأوروبية، بدعوى أنها مجرد ذيل للسياسة الأميركية التي لا تريد أوروبا قوية وتسعى دائماً الى ربطها بعجلة حلف شمال الأطلسي الذي تقوده. غير أن ألمانيا، التي كانت في ذلك الوقت أكثر ارتباطاً وتبعية للسياسة الخارجية الأميركية، ولأسباب مفهومة، غير متحمسة لمثل هذه الأطروحات، وبدت أكثر ميلاً لتحالف أوروبي أميركي أوثق في إطار حلف شمال الأطلسي، وهو ما تم بالفعل عقب رحيل ديغول وزوال العقبة التي حالت دون انضمام بريطانيا إلى عجلة التكامل الأوروبي. غير أن موقف ألمانيا من الاتحاد الأوروبي ومستقبله أصبح مهيئاً للتغير تحت ضغط عاملين: الأول: انسحاب بريطانيا الذي يؤكد مرة أخرى أنها لا تشعر بقوة الانتماء إلى أوروبا وإنها أقرب إلى أن تكون قوة أطلسية منها إلى قوة أوروبية حقيقية. الثاني: سياسة ترامب الحالية والتي تسعى الى تحميل القوى الأوروبية أعباء مالية أكبر في مقابل ما تقدمه الولايات المتحدة من حماية أمنية لها في إطار حلف شمال الأطلسي. أي أن الولايات المتحدة أصبحت هي نفسها أقل «أطلسية» مما كانت عليه في الماضي وأكثر التصاقاً بشعار «أميركا أولاً» الذي رفعه ترامب إبان حملة انتخابات الرئاسة الأميركية. يدرك ماكرون أن المفاوضات مع بريطانيا حول «الخروج» من الاتحاد الأوروبي ستكون شاقة وعسيرة، وقد تترك شقوقاً وتصدعات في بنية الجسد الأوروبي ذاته، خصوصاً في حال ظل الاتحاد الأوروبي على حاله الراهنة من الترهل والبيروقراطية. لذا يبدو الرئيس الفرنسي الشاب مقتنعاً تماماً أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجب أن تتبعه ولادة اتحاد أوروبي جديد أكثر تماسكاً واستقلالية، وإلا فإن هذا الخروج سيكون بمثابة المعول الأول في عملية انهياره لاحقاً. لكن ماكرون يدرك في الوقت نفسه أنه لن يستطيع أن يشرع في إعادة بناء وتجديد الاتحاد الأوروبي إلا عبر تنسيق كامل مع ألمانيا. لذا فهو ينتظر نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية القادمة ويراهن على فوز مركل وحزبها بالغالبية كي يشرع على الفور في العمل معها على بناء أوروبا القوية المستقلة.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية