بعد ستة أشهر من الهزيمة التي رافقتها دعاية كثيفة، والتي منيت بها قوات الثوار السوريين في حلب على يد حكومة الأسد، ما تزال المدينة التي كانت ذات مرة حاضرة عظيمة وأكبر مدينة في شمالي سورية تترنح على وقع تداعيات سنوات الصراع العنيفة. وقد يكون الضرر قد لحق بالخيوط المجتمعية والاقتصادية والمادية التي كانت قد صنعت على مدى قرون النسيج المجتمعي المميز لثروة المدينة، بالإضافة إلى وحدتها المادية والمجتمعية، قد أصبح غير قابل للإصلاح. واليوم، أصبح الكثير من المدينة ركاماً، وهبط العديد من سكانها الذين كانوا الفخورين ذات مرة إلى ربقة الفقر المدقع. وقد تعطينا التحديات المباشرة لحياة ما بعد استعادة المدينة، من إعادة الإعمار والنظام إلى محاولات حكومة الأسد استعادة الخدمات، نظرة أولى إلى ما ستبدو عليه سورية بعد استعادة السيطرة التامة للنظام على المدينة.
التدمير والتعافي
ما يزال الجرح الذي تمكن رؤيته أكثر ما يكون لألق حلب هو الضرر المادي الناجم عن المعاناة التي تسببت بها أربعة أعوام من القتال شبه المستمر، يدل على ذلك اتساع رقعة الدمار كما تظهرها مصوحات صور الأقمار الاصطناعية الأكثر كفاءة وفعالية. وقدّر تقييم أولي للضرر، والذي جمع بين التحليل المكاني والنوعي على مستوى الأرض، والذي أجري في النصف الثاني من العام 2016، أن ثلث الوحدات السكنية على الأقل في عموم المدينة إما عانت من ضرر مادي كبير، أو أنها دمرت عن بكرة أبيها. وكانت هذه الأرقام من الفترة التي سبقت أسوأ حملة هجوم شهدتها المدينة في تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) الماضيين.
بعد أشهر من سقوط المدينة، تقوم منظمات مساعدات دولية وسلطات محلية بالدخول ببطء إلى هذه “الضواحي التي أصبح يمكن الوصول إليها مجدداً” كما تصنفها الأمم المتحدة. ومع ذلك، ما تزال العديد من الطرقات المفضية إلى الأحياء المدمرة متضررة أو مقطوعة أو متداعية. وتقدر تكلفة تصليح ما يزيد على 70 كيلومتراً من الشواع التي تحتاج إصلاحاً عاجلاً وحدها بأكثر من مليار دولار. وهناك حاجة إلى مبلغ مماثل لإعادة تشغيل محطة الطاقة الحرارية الضخمة الوحيدة في حلب، مرفق انتاج الكهرباء الأهم في البلد، والتي كانت تغطي قبل الحرب نسبة 60 في المائة من احتياجات المحافظة. وبالمقارنة، بلغت موازنة الحكومة السورية برمتها للسنة المالية 5 مليارات دولار لا أكثر.
بينما ما يزال الإعلام الرسمي منشغلاً في تسليط الأضواء على إعادة افتتاح المعارض والحوانيت والمطاعم بين الفينة والأخرى لإشاعة شعور بعودة الحياة الطبيعية، فإن حقيقة السوريين في المنطقة أبعد ما تكون عن العادية والطبيعية. لم يعد في الأحياء التي كانت مكتظة بالسكان في السابق في شرق حلب سوى نزر قليل من المدنيين. واعتباراً من الشهر الماضي، سجلت الأمم المتحدة 153.012 شخصاً يقيمون في أحياء “متضررة في أفضل الحالات”، والتي كانت في السابق خاضعة لسيطرة الثوار. وتعمل هذه الأحياء كلها تقريباً من دون خدمات، وتعتمد بشكل كبير على المساعدات. والعديد هم من العائدين، وكذلك من أفقر الفقراء الذين يتدفقون من المناطق الشرقية المكتظة بالسكان والمتوترة التي تضاعف سكانها تقريباً خلال أوج الصراع.
على نحو يعكس قوة النار غير المتكافئة للأطراف المتحاربة، بالإضافة إلى التكتيكات العشوائية التي وظفها نظام الأسد خلال القتال، ينتشر الدمار بطريقة غير متساوية على الإطلاق. ثمة ضواحي برمتها كانت في السابق تحت سيطرة الثوار، مثل العامرية وتل الزرازير والبلدة القديمة وكرم الجبل، والتي جرفت سوية مع كل بنيتها التحتية وسويت بالأرض، بينما لحقت بمناطق الحكومة أضرار بسيطة. وتعاني البنية التحتية للمياه والكهرباء من عجز ضخم، ويسري التقنين على العديد من السلع والخدمات الأساسية.
الاقتصاد السياسي لاستعادة السيطرة
تستحق التداعيات الاقتصادية الاجتماعية -والسياسية- لهذا الواقع الملاحظة بشكل خاص. وتشدد معظم التقارير عن القتال وما تبعه من انقسام المدينة، على أن الانقسام الأساسي لطبقات المجتمع بين الأحياء الأكثر حضرية والموالية للنظام في الغرب، والضواحي الشعبية في الشرق. فبينما عانت المناطق السكنية الأكثر غنى في الغرب غالباً من ضرر متقطع من نيران مدفعية الثوار العشوائية، يُقدر أن 58 في المائة من المساكن الشعبية، وبشكل رئيسي في الشرق حيث سيطر الثوار، قد منيت بأضرار أو دمرت. وسوية مع مرسوم الأسد الرئاسي سيئ الصيت رقم 66 -الذي سمح بانتزاع ملكية أو إعادة تطوير المستوطنات المدمرة أو “غير الرسمية”- يمكن أن يفتح هذا الواقع الأبواب أمام المزيد من إعادة هندسة ديمغرافيات المدينة من جانب النظام.
وتزيد الموضوع تعقيداً الصلة الوثيقة بين السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية بين متشددي النظام. فقد كانت للحرب في حلب دائماً دينامية محلية أيضاً، حيث ينحدر المقاتلون على كلا جانبي خطوط المواجهة بشكل رئيسي من المدينة وبيئاتها المباشرة. وكان بين المدافعين عن غرب حلب خليط متنوع من مجموعات المليشيات: كتائب هلال الهلال البعثية، بالإضافة إلى قوات الدفاع الوطني بقيادة رجل الأعمال السابق وإقطاعي الأراضي سامي أوبري، والتي تم تجنيدها من شباب المدينة.
في الحقيقة، وبعد المرسوم الرئاسي الذي صدر في العام 2013 والذي سمح بتنجيد المليشيات لحماية السلع الرأسمالية، انتقل بعض الرجال الأثرى في حلب، مثل الصناعي محمد جيمول، إلى الاستثمار في قطاع المليشات المتبرعم. ومع تدمير صناعة حلب (ثمة متنزه ترفيهي يمتلكه أوبري أصبح ميدان معركة سية الصيت)، أصبحت الاستفادة من الحرب هي آخر قطاع مربح تبقى في سورية. وهكذا، ظهرت بعد سنوات الصراع دائرة سياسية اقتصادية جديدة في المدينة.
على سبيل المثال، مع عدم توفر الكهرباء لأكثر من ساعتين في اليوم من الشبكة العامة، ظهر أكثر من 100 مولد كهرباء بملكية خاصة في الضواحي في عموم الجزء الغربي من المدينة. وتظهر التجربة من لبنان والعراق أن هؤلاء المتعهدين الانتهازيين يمكن أن يصبحوا بسرعة قوة سياسية. ويشكل هذا الاستثمار وغيره من نماذج الأعمال المشابهة مصالحاً استثمارية جديدة يجب أن تشملها خطة إعادة إعمار حلب. وتبدو إعادة أعمار المدينة المدمرة من دون التعامل مع وسطاء السلطة المحليين الذين نشأوا في الفراغ احتمالاً غير مرجح، خاصة في ضوء عدم قدرة الحكومة المركزية على كبح سلطتهم ونفوذهم.
منذ استعادة السيطرة على الجيوب التي كانت تحت سيطرة المعارضة في حلب، طفت على السطح معاناة طويلة الأمد -لكنها كانت مختفية سابقاً- والتي اختبرها السكان المحليون ضد المسلحين الذي يقاتلون لصالح الأسد. ويتهم صحفيون وناشطون ومسؤولون محليون “العصابات المسلحة” بممارسة السرقة تحت تهديد السلاح، والسلب والنهب، والقتل، والاقتتال الداخلي، وبشكل خاص عمليات الإعدام خارج القانون عند نقاط التفتيش، مما قاد إلى المزيد من زيادة الأسعار والمزيد من المعاناة الإنسانية في داخل حلب، بالإضافة إلى خلق حالة من القلق حول بيئة الأعمال. وقد تم منع رضا الباشا من محطة الميادين التلفزيونية الصديقة لحزب الله من التغطية الصحفية في سورية بعد انتقاده لعناصر إجرامية في قوات النظام (وخاصة قوات النمر التابعة للجنرال سهيل حسن الذي ارتقى منذئذٍ إلى تولي مسؤولية لدائرة مخابرات سلاح الجو القوية جداً في حلب).
بل إن بعض شخصيات النظام المرموقة الأكثر نفوذاً في المدينة أضافت أصواتها إلى التبرم والشكوى. فقد نشر فراس الشهابي، عضو البرلمان ورئيس غرفة الصناعة السورية، شريط فيديو مؤخراً على مواقعه للتواصل الاجتماعي، والذي ظهر فيه وهو يصرخ شاهراً بندقية كلاشنيكوف في يده، منتقداً نظام الابتزاز. وبدا أن المرسوم الأولي الذي أصدره الجنرال ضياء صالح، رئيس اللجنة الأمنية المؤقتة، في شباط الماضي، له القليل من التأثير. وفي الفترة الأخيرة، وبعد تدخل الشهابي، ذكر أن دمشق تدخلت ضد ضرائب الطريق على سيارات الشحن المتوجهة إلى داخل حلب. لكن ديناميات السلطة الكامنة ظلت مع ذلك من دون تغيير.
تصاعد النفوذ الإيراني
وراء ظاهرة أمراء الحرب المحلية، يستمر نفوذ إيران في المدينة في النمو أيضاً. ولم يعزز جهاز الحرس الثوري الإيراني شبكته المنيعة أصلاً من المليشيات الشيعية الأجنبية وحسب، بل إنه وسع دورها وأضفى عليه الصبغة الرسمية في عموم محافظة حلب. ورسمياً خارج هيكل القيادة السورية، نمت ما تدعى قوات الدفاع المحلية، وهي مظلة للمجموعات المدعومة من إيران مثل لواء الإمام الباقر بحيث أصبح عدد أفرادها 26.000 مسلح في محافظة حلب وحدها.
بسبب استثناء أعضائها من التطوع أو التجنيد في الجيش السوري، توفر مجموعة المظلة الإيرانية فرصاً وخدمات انسانية واجتماعية للمتقاعدين المعدمين بغير ذلك، من الحلبيين. وخلال سقوط الجيب الشرقي الذي كان تحت سيطرة المعارضة، وبالإضافة إلى القتال على خطوط المواجهة، أدار لواء الباقر أهم نقاط الخروج للمدنيين الهاربين من القتال. وكان الأحدث هو نشر ضباطهم دعاية لأنفسهم وهم يفاوضون على إعادة دخول النازحين إلى المناطق الشرقية، ويقودون هجمات مضادة عميقاً في داخل البلد.
بالمعاني المطلقة، تبدو عملية إعادة إعمار حلب بشكل واضح أكثر من قدرة إيران المالية. ومع ذلك، كسبت الجمهورية الإسلامية وكسب حزب الله شرعية هائلة بين الموالين، بسبب دورهما في استعادة المدينة، وهما يبدوان راغبين في رفع شعبيتهما نحو المزيد من النفوذ الدائم. وفي كانون الثاني (يناير) الماضي، وفي أعقاب انهيار جيب الثوار شرق حلب، وقعت دمشق وطهران خمس مذكرات تفاهم تتعلق بشكل خاص بالاستثمار الاقتصادي. وأكد محافظ حلب، حسين دياب، على أن إيران تلعب “دوراً مهماً في إعادة الإعمار في سورية، وخاصة في حلب”. وبينما يظل من الصعب التعرف على تفاصيل ذلك الترتيب، نشرت ما تدعى “سلطة إعادة الإعمار الإيرانية” أول مبادراتها، وكان الأبرز من بينها تجديد 55 مدرسة تخطط لإعادة بنائها في عموم محافظة حلب. وبينما يذكر اسم المشروع بما تدعى “اللجنة الإيرانية لإعادة إعمار لبنان” التي تأسست بعد الحرب بين حزب الله وإسرائيل في العام 2006، فإن درجة ومدى التزام طهران الفعلي في إعادة إعمار المدينة السنية ما يزال غير واضح.
الخلاصة
بعد أكثر من أربع سنوات من القتال والحرب، أصبحت حلب مدينة معدمة، وتحول نسيجها المجتمعي إلى أشلاء. وفي ضوء القدرة المحدودة للنظام والتزاماته المالية، من غير المرجح أن تتم إعادة إعمار هذه الحاضرة، ومن غير الممكن التخفيف من معاناة مواطنيها بشكل دائم من دون مساعدة دولية. ومع ذلك، يجب أن يكون أي مانح واعياً -ليس فقط بمدى مشكلة إعادة الإعمار في حد ذاتها- بل وأيضاً بالبيئة السياسية والاقتصادية والعسكرية المحلية، بحيث لا يتم تعزيز أو مكافأة تطلعات نظام الأسد الاستبدادية.
توباس شبايندر
صحيفة الغد