مع استمرار تضييق الخناق على تنظيم “داعش” في معقله بمدينة الموصل العراقية، وبينما كانت القوات العراقية على بعد 50 مترًا من جامع النوري في الموصل القديمة، قام مسلحو “داعش” بتفجير جامع النوري ومنارة الحدباء التاريخية. ليستيقظ أهالي الموصل يوم الخميس الماضي للمرة الأولى منذ قرون دون منارة الحدباء التاريخية. وبهذا العمل الإجرامي وقع المحظور الذي كان يخشاه علماء الآثار وأهالي مدينة الموصل. وفي هذا الإطار قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إن إقدام داعش على تفجير جامع النوري التاريخي ومنارة الحدباء في الجانب الغربي لمدينة الموصل إعلان رسمي لهزيمة التنظيم في المعارك. من جهته، قال أسامة النجيفي نائب رئيس الجمهورية العراقي إن تدمير منارة الحدباء ومسجد النوري الكبير “أفقد الموصل أحد أسمائها التاريخية المهمة”. وحمّل النجيفي داعش المسؤولية، وقال إن داعش أعلن اليوم “للعالم أجمع هويته الحقيقية، وهي التدمير ولا شيء غير ذلك”. كما اتهم أهالي الموصل أيضًا داعش بتفجير المسجد، مؤكدين أن “داعش” كان يرى في انحناءة المنارة التي يعود بناؤها الى القرن الثاني عشر الميلادي رمزًا يوحي بـ”الانحراف عن الدين”، ما جعلها في دائرة استهداف التنظيم الذي دمر الكثير من المعالم التاريخية والأثرية في ثاني مدن العراق وعلى رأسها متحف الموصل وأماكن تاريخية.
وقد دانت منظمة الثقافة والفنون التابعة للأمم المتحدة (اليونسكو) بشدة تدمير جامع النوري الكبير في الموصل ومئذنته “الحدباء” الشهيرة من قبل داعش .ووصفت المنظمة الموقع بأنه رمز لهوية المدينة، وقالت إن هذا العمل “يعد مأساة انسانية وثقافية”. وهذه ليست المرة الأولى التي يُدمر فيها أثر تاريخي في العراق. لكن الإرث هذه المرة ينطوي على امتزاج الديني بالتاريخي إضافة إلى ما تحمله المنارة من دلالات ثقافية، من خلال قوتها على اختزال مدينة بأكملها. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا قام داعش بتفجير جامع النوري؟
يرجع تاريخ جامع النوري إلى عام 1172، وكان أشهر مسجد سني في الموصل. واكتسب اسمه من القائد المسلم نور الدين محمود زنكي، الذي اشتهر بحربه على الفرنجة”الصليبين”. وعرفت مئذنته المائلة التي تغطيها زخارف دقيقة من الطوب باسم “الحدباء”. كان الجامع مشهورًا بمنارته المحدبة نحو الشرق، وهي الجزء الوحيد المتبقي في مكانه من البناء الأصلي، وتعد المنارة أحد أبرز الآثار التاريخية في المدينة. كان أهل الموصل يعتقدون أن منارتهم القديمة مائلة لأنها تنحني للنبي محمد احتراما، وبسبب ذلك الانحناء فإن المؤذن لم يجازف بتسلقها أبدا. تمت إعادة بناء الجامع الكبير عام 1942 بأوامر ملكية من الحكومة العراقية غير أن المنارة بقيت على حالها منذ القرون الوسطى.وفي الرابع من تموز/يوليو 2014 خطب البغدادي خطبة الجمعة من منبر الجامع وتحدث عن “الخلافة” التي أعلنها التنظيم. ورفع التنظيم رايته السوداء على مئذنة الجامع الشهيرة، وأصبح الجامع بعد ذلك مركزا لأنشطة التنظيم.
يعتقد معظم المراقبين أن تدمير الجامع، هو مؤشر إلى آخر تحد غاضب للتنظيم قبل أن يفقد سيطرته على الموصل.وربما يكون تدمير هذا المعلم أفضل للتنظيم من مشاهدته وهو يقع تحت سيطرة أعدائهم، وهذا سيناريو يمثل أكبر ضربة رمزية من قبل التنظيم، ويعتقد متابعون للشأن العراقي أن عملية التدمير متوقعة بشكل كبير، مشيرين إلى أن داعش لا يريد أن يكون مركز خلافته المزعومة قد سقط بيد القوات الحكومية التي ستبادر إلى استثمار ذلك كنصر استراتيجي على التنظيم الذي دأب على تفجير مقراته لمنع خصومه من تحليل ما يخلفه وراءه على أمل التوصل إلى البعض من أسراره.
ويرى المراقبين أن جامع النوري ليس أثرا بل هو تاريخ معيش من قبل أجيال من سكان المدينة المحافظة، وإن إزالته بالطريقة التي رأيناها تعني إزالة الموصل بالصفة التي عرفت بها من المستقبل العراقي واستبدالها بذكرى المدينة التي عاث فيها الإرهابيون فسادا. وأضافوا المراقب أن مَن يتحدث اليوم عن الجامع النوري باعتباره المكان الذي اعتلى فيه البغدادي المنبر هو كمن يسعى إلى إدخال الموصل كلها في ثقب أسود، معتبرين أن هذا التصنيف سيلقي بظلاله الكئيبة على حياة سكان المدينة التي تحتاج إلى مشروع سياسي واقتصادي لإنقاذها من الكارثة التي حلت بها.
بعد الاحتلال المغولي للموصل لاقى الجامع النوري كغيره الكثير من الإهمال والتخريب، ودمرت الموصل تدميرا شبه كاملا عام 1734. ظل المبنى صامدًا قرابة الـ 850 عامًا، حيث نجا من غزو المغول، لكنه لم ينج من تنظيم “داعش”. فبتفجيره هل هو إقرار داعش بالهزيمة أم محو تاريخ سيطرته على الموصل؟
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية