قد لا يكون مر على الأمم المتحدة منذ إنتهاء الحرب الباردة مشكلة أعقد من الصراع الدائر في اليمن حاليا. في معظم النزاعات الأخرى هناك إصطفافات محددة أو شبه محددة وخصوم واضحو المعالم والحدود والمواقف. هذا ينطبق على ما جرى في معظم الصراعات البينية من البوسنة إلى الصومال ومن سيراليون إلى الكونغو ومن كوسوفو إلى ناغورنو كاراباخ. حتى في سوريا، هناك معسكران كبيران النظام وحلفاؤه مثل إيران وروسيا وحزب الله والمعارضات المنوعة التي يجمعها شعار محاربة النظام رغم ما بينها من خلافات وتقف خلف هذه المعارضات الدول الداعمة لها في الخليج وتركيا والدول الغربية.
الوضع في اليمن مختلف تماما، فالأمور متداخلة ومعقدة ومتشابكة وهنا بعض الأمثلة: حزب الإصلاح المحسوب على الإخوان المسلمين يقاتل ضد نظام المخلوع علي عبد الله صالح وحلفائه من الحوثيين. والسعودية والتحالف يقاتلون الهدف نفسه لكنهم لا يتحالفون مع الإصلاح ويعتبرونه حزبا إرهابيا ويسجنون ويعذبون من يقع تحت أيديهم من هذا الحزب. مثال آخر: تعتبر عدن رسميا على الأقل قاعدة لأنصارعبد ربه منصور هادي ومع هذا يتشكل حراك في عدن للإنفصال يقوده محافظ عدن المُقال، عيدروس الزبيدي، يعلن تشكيل المجلس السياسي لقيادة جنوب اليمن، وتتولى هيئة رئاسة في المجلس مهام استكمال إجراء التأسيس لهيئات المجلس الانتقالي، وإدارة وتمثيل الجنوب داخلياً وخارجياً. ويتم تصفية محافظ عدن، جعفر محمد سعد، المحسوب على عبد ربه منصور هادي. من المفروض أن قوات التحالف الذي تقوده السعودية جاءت لتنتصر للشرعية التي يمثلها الرئيس عبد ربه منصور هادي. لكن السعودية تفاوضت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع الحوثيين لوقف الهجمات التي يشنونها على الحدود السعودية.
في اليمن ميليشيات تابعة للحوثيين شبه مستقلة عن الحرس الجمهوري القوي عددا وعتادا ويقوده أحمد بن عبد الله صالح والذي ينشط ماليا في دولة الإمارات العربية ويشير تقرير لجنة الخبراء أن صفقات كبرى لصالح والحوثيين يجري تحويل الأموال تعقد عن طريق شركات مقرها في الإمارات أحد أركان التحالف العربي. كما قامت الإمارات عام 2016 ببناء ميليشيات تابعة لها من بينها «قوات الحزام الأمني» في عدن وعناصرها يمارسون الاحتجاز التعسفي أو الإخفاء القسري لمن تتهمهم أنهم من أنصار القاعدة ومن بينهم عدد كبير من الأطفال، كما جاء في تقرير «هيومان رايتس ووتش» الأخير. تتبع هذه القوة رسميا لوزارة الداخلية اليمينة بالإسم، لكنها ممولة ومسيَّرة من الإمارات حسب فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة. ويشير تقرير الخبراء إلى أن قوات الحزام الأمني تعمل خارج سلطة الحكومة اليمنية.
في اليمن أيضا قوات تابعة لهادي وللحراك الجنوبي وميليشيات تابعة للقبائل ومناطق تسيطر عليها القاعدة تماما كما أن نشاط «داعش» في الاغتيالات وتدمير المساجد لا يتوقف. وصالح نفسه كان حليفا للسعودية وطلب عونا منها ضد الحوثيين عام 2004 وقام الطيران السعودي بقصف مواقع الحوثيين لصالح صالح. وبعد الحراك الشعبي اليمني العارم ضد صالح وإرتعاد مفاصل السعودية من وصول الثورات العربية لحدودها، قامت بقمع ثورة البحرين وقررت أن تتآمر على ثورة اليمن باستخدام صالح نفسه، فجاءت به بعد الانفجار في المسجد الرئاسي في شهر حزيران/يونيو 2011 إلى مستشفياتها وأحضرت له طاقم أطباء عالميين وأعادته في أيلول/سبتمبر 2011 لاستكمال دوره التخريبي في تدمير ما تبقى من اليمن. ثم عادت وانقلبت عليه وأطلقت «عملية عاصفة الحزم» في اذار/مارس 2015 لهزيمة التحالف بين صالح والحوثيين المدعوم من إيران ولم تفلح لحد الآن بل إن فشل تحقيق أهداف عاصفة الحزم لغاية الآن أكبر من أن يتعامى عنه أحد.
قرارات الأمم المتحدة: غياب آلية التنفيذ
تعاملت الأمم المتحدة مع الأزمة اليمينة عبر ثلاثة مسارات: السياسي والإنساني وإنتهاكات حقوق الإنسان. ونستطيع أن نقول الآن بعد ست سنوات ونيّف إن المسارات الثلاث وصلت إلى طريق مسدود، فلا إنفراج في المسار السياسي والوضع الإنساني يعتبر الكارثة الأكبر والأخطر على مستوى العالم بعد إنتشار الكوليرا وأما إنتهاكات حقوق الإنسان فقد وصلت مستوى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بعد استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق ومواكب الأعراس والجنازات، والأمم المتحدة غير قادرة أن تعمل أي شيء إلا المناشدة، أو غير مسموح لها أن تعمل شيئا لأن هناك من يعتقد واهما أنه قادر على حسم المعركة بقوة السلاح.
فعلى المستوى السياسي ظل مجلس الأمن متابعا للأزمة منذ بدايتها حيث أصدر سبعة قرارات، من بينها إثنان تحت الفصل السابع وهما قرار العقوبات 2140 (2014) وقرار الحل الشامل 2216 (2015). كما أن الأمين العام عين جمال بنعمر مستشارا له حول اليمن في نيسان/أبريل 2011 وبعد فشله الذريع في تعامله مع الأزمة واتهامه بالتساهل مع الحوثيين وصالح الذين انطلقوا من صعدة وبسطوا سيطرتهم على معظم أجزاء اليمن واحتلوا العاصمة يوم 21 أيلول/سبتمبر 2014 وتمددوا إلى الجنوب، قام الأمين العام باستبدال المغربي بنعمر بالموريتاني إسماعيل ولد الشيخ صالح في نيسان/أبريل 2015 والذي استطاع على الأقل أن يجمع أطراف الصراع في عدة جولات حوارية في جنيف والكويت، دون تحقيق إختراق لتعنت الأطراف المعنية ولغياب آلية تنفيذ القرار 2216 المعتمد تحت الفصل السابع.
ونستطيع أن نجمل الحل الذي طرحته الأمم المتحدة وشكل خروجا على القرار 2216 أو إعادة ترتيب بنوده بحيث يتم تشكيل لجنة رئاسية مكونة من كافة الأطراف لإدارة البلاد مؤقتا ولا دور فيها لهادي وتشكيل لجنة مشتركة محايدة من العسكريين والأمنيين لمراقبة وقف إطلاق النار ثم جمع الأسلحة وإطلاق المعتقلين السياسيين من كافة الأطراف ثم الاتفاق على كتابة دستور جديد فانتخابات حرة وعادلة ونزيهة. الضلع الناقص في هذه المبادرات هو الموقف السعودي الذي يقرر الموقف نيابة عن عبد ربه وجماعته. ولذلك يصر الحوثيون وصالح أن تكون هناك مفاوضات متوازية بين اليمنيين من جهة ومع السعودية من جهة أخرى.
وخلال جولات المفاوضات التي لم تسفر عن شيء كانت هناك نقاط أساسية تعكس موقف الأمم المتحدة لم يحترمها أحد:
– إدانة قتل المدنيين والاستخدام المفرط للقوة.
– رفض استخدام القوة لفرض التغيير.
– الإقرار مع عبد ربه منصور هادي على أنه الرئيس الشرعي لكن يمكن ابقاء موقعه رمزيا واعطاء الصلاحيات للمجلس السياسي المشترك.
– إخلاء المعسكرات التي يسيطر عليها الحوثيون وإلغاء الإعلان الدستوري والمكتب الرئاسي وحكومة الإنقاذ.
– تكرار أن الحل اللسليم القابل للنجاح يقوم على تنفيذ المبادرة الخليجية وآليات التنفيذ الملحقة بها ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني وقرارات مجلس الأمن وخاصة 2216.
– كل من ينتهك سيادة اليمن ويزعزع الاستقرار ويقوض وحدة اليمن يصبح هدفا لوضعه على قائمة العقوبات.
– تم تعيين فريق خبراء مختص بمراقبة منتهكي القرارات ومعطلي العملية السلمية الانتقالية حسب القرار 2140 لفرض عقوبات عليهم وقد أدرجت خمسة أسماء على القائمة هم الأخوان عبد الملك وعبد الخالق الحوثي وعبد الله يحيى الحكيم وعلي عبد الله صالح وابنه أحمد. وبعد ذلك توقف البحث والإضافات بل إن الأمم المتحدة وجدت نفسها تتفاوض مع الأخوين الحوثي ومع صالح وابنه وهم يصرون على شطب اسمائهم أولا قبل الدخول في المفاوضات الجادة. الأمم المتحدة تصرفت وكأنها لا ترى ولا تسمع.
المفارقة أن قرارات المجلس لم يتم احترامها من كافة الأطراف التي تنتهك وحدة اليمن وسلامة أراضيه وتمعن في انتهاك حق اليمنيين البسيط في العيش بكرامة. والنقطة الثانية أن مجلس الأمن نفسه لم يتابع مسألة تنفيذ القرارات وكأن المقصود من القرارات اعتمادها فقط. لذلك نشعر أن مجلس الأمن خذل اليمن والأمم المتحدة كلها خذلت اليمن والمستشار الخاص للأمين العام والمبعوث الحالي خذلا اليمن. ولذلك نستطيع أن نرى اليمن وهو على وشك الانهيار من الناحية الإنسانية بسبب نقص المواد الغذائية والطبية ومن جهة أخرى نرى أن «عاصفة الحزم» دمرت ما تبقى من يمن الخراب والموت والجوع ولن تحسم المعركة على الأرض لأن أزمة اليمن وتعقيداتها لا يمكن أن تحل إلا بالطرق السلمية البسيطة.
المسار الإنساني
وصف وكيل الأمين العام للشؤن الإنسانية في تقريره الأخير لمجلس الأمن الأوضاع الإنسانية في اليمن بانها أكبر كارثة إنسانية في العالم تطال 80 في المئة من الشعب اليمني أي نحو 18 مليون إنسان من بينهم عشرة ملايين لا يعرفون إذا هناك شيء يأكلونه اليوم أم لا. وهنا فقرة من تقرير خيرت كابالاري مدير اليونيسيف في المنطقة: «إن مرض الكوليرا ينتشر بسرعة فحول وضع الأطفال السيء أصلا في اليمن إلى كارثة، إذ تم الإبلاغ عما يقرب من 70 ألف حالة إصابة بالكوليرا خلال شهر واحد فقط، كما لقي نحو 600 شخص مصرعهم. ومن المتوقع أن يستمر انتشار الكوليرا مع احتمال وصول عدد الحالات المشتبه فيها إلى 130 ألفا خلال الأسبوعين المقبلين. شاهدت في زيارة لأحد المستشفيات مناظر مروعة لأطفال على آخر رمق، ورضع صغار يزن الواحد منهم أقل من كيلوغرامين يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة. وأبدى تخوفه من أن يكون بعضهم قد لقي حتفه خلال الليل. إن الكثير من الأسر تكاد لا تستطيع تحمل تكلفة إحضار أبنائهم إلى المستشفى، إلا أن هؤلاء الأطفال هم المحظوظون لأن غيرهم الكثيرين في أنحاء اليمن يموتون في صمت نتيجة أسباب يمكن علاجها بسهولة مثل الكوليرا والإسهال وسوء التغذية».
أما مسار حقوق الإنسان فالأمر أخطر بكثير
لقد كان تقرير الأطفال في الصراعات المسلحة واضحا في توزيع اللوم على الأطراف المتحاربة. فقد أدرج اسم السعودية ضمن قائمة العار. ولكن تحت الضغط والتهديد والوعيد اضطر الأمين العام السابق بان كي مون «القلق دائما» أن يحذفها. وهذا مقطع مما جاء في التقرير: «إن 60 في المئة من الضحايا من الأطفال قتلوا على أيدي التحالف الذي تقوده السعودية (510 قتيلا و667 جريحا) ونحو 60 في المئة من الضحايا سقطوا بسبب الغارات الجوية. كما تم توثيق 101 هجوم على المدارس والمستشفيات دمر منها تماما نحو 90٪ ويتحمل التحالف مسؤولية 48٪ منها. وتحققت الأمم المتحدة من 42 هجمة على المدارس معظمها في صنعاء وتعز وصعدة ولحج يتحمل التحالف 57 ٪ منها».
ومع هذا تداري الأمم المتحدة الأمور وتخفيها كي تضمن وصول بعض التبرعات للاستفادة منها في كارثة إنسانية أخرى حيث وصل عدد المحتاجين إلى مساعدات طارئة منقذة للحياة نحو 141 مليون شخص.
اليمن الآن يغرق ويتفتت ويموت والجميع يتفرج. فهل من معجزة تنقذ هذا البلد العريق؟
عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي