توحي الحشود العسكرية التركية في الطرف المقابل لعفرين وإدلب السوريتين بأنها تنتظر ساعة الصفر، خاصة أن التصريحات التركية -على أعلى المستويات- تؤكد أن هذه العملية باتت مسألة وقت لا أكثر، بل إن الصحافة التركية استبقت العملية فأطلقت عليها اسم “سيف الفرات”، ربما تيمنا بعملية “درع الفرات” التي باتت تركيا تقول إنها لم تحقق أهدافها كاملة.
ورغم التأكيد التركي على أن هذه العملية أكيدة، فإن ثمة أسئلة كثيرة عن أسبابها وأهدافها ومداها، والأهم عن مواقف القوى والدول المعنية بالأزمة السورية، ولا سيما روسيا التي تشهد علاقاتها مع تركيا تفاهما كبيرا على وقع محادثات أستانا واتفاق مناطق خفض التوتر، مقابل التوتر مع الإدارة الأميركية بسبب مساندتها ودعمها للكرد السوريين.
لماذا عفرين؟
رغم أن عفرين معزولة جغرافياً عن باقي الكانتونات الكردية في سوريا (أي كوباني والجزيرة)، فإنها تحتل أهمية إستراتيجية كبيرة في المشروع الكردي، نظرا لأنها تشكل الجسر الجغرافي لوصل هذا المشروع بالبحر الأبيض المتوسطإذا ما أتيحت له ظروف ذلك، كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الكرد.
“رغم أن عفرين معزولة جغرافياً عن باقي الكانتونات الكردية في سوريا (أي كوباني والجزيرة)، فإنها تحتل أهمية إستراتيجية كبيرة في المشروع الكردي، نظرا لأنها تشكل الجسر الجغرافي لوصل هذا المشروع بالبحر الأبيض المتوسط إذا ما أتيحت له ظروف ذلك، كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الكرد”
وهو في نفس الوقت يشكل هاجس تركيا الدائم، إذ إن تحقيق مثل هذه الخطوة سيُخرج الأمور عن سيطرتها ويُصبح الكيان الكردي المنشود واقعا على الأرض، وربما تصبح الفدرالية على طاولة تسويةالأزمة السورية، وعليه فإن مصير عفرين يقع في صلب الخطوة التركية المقبلة، وذلك لأسباب كثيرة لعل أهمها:
1- أن تركيا -التي سيطرت على مدينة الباب عبر عملية درع الفرات- ترى أن هدفها الأساسي من عملية درع الفرات لم يتحقق بعد، إذ إن إمكانية وصل عفرين بشرقي الفرات لا تزال قائمة، طالما أن منطقة منبج-ومعها مثلث الشيخ عيسى وتل رفعت- تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتطلع الأخيرة إلى ربط هذه الكانتونات.
2- أن تركيا -التي أبعِدت بقرار أميركي من معركة استعادة الرقة من تنظيم الدولة الإسلامية– ترى أن استعادة الرقة ستؤدي لاحقا إلى توجيه الثقل الكردي نحو عفرين، وعليه فإن عملية عسكرية للسيطرة على عفرين ستكون خطوة استباقية إستراتيجية لمنع تمدد المشروع الكردي وقطع الطريق أمامه نهائيا.
3- أن السيطرة على عفرين ستتيح لتركيا مكاسب إستراتيجية على الأرض لجهة ربط مناطق ريفيْ حلب الشمالي والشرقي مع محافظةإدلب، وهو ما سيزيد نفوذ تركيا ودورها في مجمل الأزمة السورية، بل ربما ترى في ذلك تعويضا عن خسارتها لمعركة حلب لصالح النظام وحلفائه.
سيناريوهات التدخل
تتحدث الصحافة التركية عن أن عملية “سيف الفرات” ستنطلق بسبعة آلاف جندي تركي، فيما يرفع البعض السقف إلى عشرين ألفا بمشاركة الفصائل المسلحة التي شاركت في عملية “درع الفرات”، لكن الغامض حتى الآن هو مدى العملية ومراحلها والمناطق المستهدفة بها، وعلاقة كل ذلك بالتفاهمات الإقليمية والدولية.
في الحديث عن السيناريوهات المطروحة لا بد من التوقف عند السيناريوهات التالية.
1- سيناريو توسيع نفوذ “درع الفرات”: يرى البعض أن الهدف الأساسي لعملية درع الفرات كان الوصول إلى منبج، وقطع الطريق نهائيا أمام تقدم الكرد في اتجاه عفرين، ولكن مثل هذا الأمر لم يتحقق لسببين: الأول هو القصف الروسي الكثيف عام 2016 الذي حال دون وصول عملية درع الفرات إلى منبج وجعلها تتوقف عند مدينة الباب.
“يرى البعض أن الحشود العسكرية على الحدود والتسخين السياسي والعسكري يتجاوز مسألة منبج وتحقيق باقي أهداف عملية درع الفرات إلى عملية أوسع، تحقق هدفها النهائي بقطع الطريق أمام المشروع الكردي، وأن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق دون الوصول إلى عفرين التي تحتل مكانة مصيرية للكرد وإستراتيجية لتركيا”
أما السبب الثاني فهو الدعم الأميركي للكرد، وعدم تنفيذ الإدارة الأميركية لوعدها بإخراج وحدات حماية الشعب من منبج رغم كل الضغوط والتهديدات التركية.
وفي المحصلة؛ فإن عملية درع الفرات لم تحقق هدف تركيا في تحصين أمنها القومي، كما أنها هذه العملية مهددة إذا ما أتيحت لقوات سوريا الديمقراطية السيطرة على مدينة الرقة.
وعليه يرى هؤلاء أن الهدف الأساسي للتسخين العسكري التركي هو الوصول إلى مثلث منبج/الشيخ عيسى/تل رفعت، انطلاقا من مطار منّغ الواقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
2- سيناريو عفرين: يرى البعض أن تركيا لن تحس بتحقيق ضمان أمنها القومي إلا بعد الوصول إلى عفرين، والقضاء على نفوذ حزب العمال الكردستاني وحليفه هناك حزب الاتحاد الديمقراطي.
ويستدل هؤلاء بأن الحشود العسكرية على الحدود والتسخين السياسي والعسكري يتجاوز مسألة منبج وتحقيق باقي أهداف عملية درع الفرات إلى عملية أوسع، تحقق هدفها النهائي بقطع الطريق أمام المشروع الكردي، وأن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق دون الوصول إلى عفرين التي تحتل مكانة مصيرية للكرد وإستراتيجية لتركيا.
3- سيناريو ما بعد عفرين: ثمة من يرى أن تركيا تعتقد أن الظروف السياسية والميدانية مواتية لتقوم بتحرك أوسع يتجاوز عفرين، وأن الحماس التركي/الروسي للاتفاق على المناطق المنخفضة التوتر قد ينتج تفاهما أوسع يصل إلى رسم مصير محافظة إدلب، خاصة أن الطرفين منزعجان من موقف الكرد وتحالفهم مع الإدارة الأميركية.
كما أن هذا التحالف بات يقلق كلا من أنقرة وموسكو وحتى النظام السوري، وبالتالي فإن إمكانية التفاهم على عملية عسكرية تركية في عفرين كمرحلة أولى قد تفضي إلى اتفاق أوسع للتحرك معا نحو إدلب، للقضاء على نفوذ القاعدة وباقي التنظيمات المتشددة في هذه المنطقة، ولحماية الهدنة وفق اتفاق أستانا.
ويتطلب مثل هذا السيناريو وقوف روسيا والنظام السوري وحلفائه على الحياد في مرحلة دخول القوات التركية ومن معها من فصائل عملية “سيف الفرات” إلى عفرين والسيطرة عليها.
حسابات متداخلة
مع تقدم التفاهم التركي/الروسي؛ ربما لا ترى تركيا أن لدى روسيا مشكلة مع عملية تركية مدروسة سياسيا، خاصة أن العنوان الأساسي لهذه العملية سيكون مكافحة المنظمات الإرهابية، والعمل ضمن إطار اتفاق التهدئة في المناطق المنخفضة التوتر، في حين أن المشكلة الأساسية هي مع الجانب الأميركي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية.
“لعل التحدي هنا هو كيف ستتعامل تركيا مع الموقف الأميركي، خاصة في ظل التأكيدات الأميركية لمواصلة دعم الكرد بالسلاح، وتحولهم إلى حليف شبه وحيد للإدارة الأميركية في الساحة السورية، التي أصبحت مناطق صراع بين الدول المتصارعة على النفوذ”
ولعل التحدي هنا هو كيف ستتعامل تركيا مع الموقف الأميركي، خاصة في ظل التأكيدات الأميركية لمواصلة دعم الكرد بالسلاح، وتحولهم إلى حليف شبه وحيد للإدارة الأميركية في الساحة السورية، التي أصبحت مناطق صراع بين الدول المتصارعة على النفوذ.
ثمة من يرى أن تركيا لن تتحرك عسكريا قبل القمة المنتظرة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب، على هامش قمة مجموعة العشرين في ألمانيا؛ لكن الثابت هو أن أنقرة ترى أن انشغال أميركا والقوات الكردية بمعركة الرقة فرصة تاريخية للتحرك على الأرض لمنع تداعيات مرحلة ما بعد الرقة على أمنها القومي.
ومن جهة أخرى كي لا تتعرض لخسارة إستراتيجية جديدة على غرار معركة حلب عندما خرجت منها خالية الوفاض، إذ إن قطع الطريق أمام التمدد الكردي في مرحلة ما بعد استعادة الرقة، والحد من التسليح الأميركي للكرد وخفضه إلى مستوى ما قبل معركة الرقة، يبقى في صلب الإستراتيجية التركية في المرحلة المقبلة طالما رأت أن أمنها القومي مهدد.
يبقى القول إن اللاعب الكردي -الذي اختبر القتال جيدا في كوباني ويتلقى الدعم من الإدارة الأميركية- لن يجد أمامه سوى خيار المقاومة في عفرين، وهو ما قد يجعلها عنوانا جديدا في فصول مأساة الأزمة السورية التي ما زالت مفتوحة على كل السيناريوهات.
خورشيد دلي
الجزيرة