يمثل سقوط المعقل الرئيسي لتنظيم “داعش” في الموصل في العراق نقطة انعطاف، استراتيجية وسياسية وأيديولوجية، بل وحتى دينيا في العالم الإسلام. وكانت الموصل هي المركز الرمزي الأكبر لـ””خلافة داعش” التي ترأسها “خليفة” التنظيم، عبد الرحمن (أبو بكر) البغدادي.
ولن يكون سقوط “عاصمة داعش” في الرقة السورية بعيدا أيضا. ومن شأن ذلك وضع حد لإدعاءات التنظيم بأنه بدأ عملية الإزالة المادية لكل الحدود الاستعمارية، والتي بدأت بإزالة الحدود بين العراق وسورية. وباختصار، فإنه سوف أفول التنظيم يؤشر على نهاية إقليمية “داعش”، التي ربما كانت أكثر مزاعم “الخلافة” شهرة.
كان تأسيس الخلافة واحدا من السمات التاريخية والرمزية المهمة في التاريخ الإسلامي، والذي يجسد فكرة إقامة دولة إسلامية عالمية -حتى مع أن هذا الشيء لم يوجد أبدا بشكل كامل. ويمكن القول بأن الخلافة معادلة للبابوية تقريبا -التي كانت ذات مرة مقياسا إقليميا رئيسيا وما تزال حتى اليوم مقياسا للمجتمع الديني الكاثوليكي. وترمز الخلافة والبابوية على حد سواء إلى رؤية -الدولة المؤسسة دينياً كشيء مثالي.
على عكس صورتها الكاريكاتورية في الغرب، فإن مفهوم الخلافة في أعين معظم المسلمين إيجابي تماما –باعتباره رمزاً لمدى وصول العالم المسلم تاريخيا، من حيث الثقافة، والحضارة والوصول الجغرافي. واليوم ثمة القليل من المسلمين الذين يعتقدون بأن من الممكن عملياً إعادة تأسيس الخلافة. ومع ذلك، فإن فكرة أن يكون هناك مقعد واحد للسلطة الدينية تبدو معقولة في الإسلام تماماً بقدر ما هي للأديان الأخرى. لكن أي جهد يبذل اليوم لإعادة خلق خلافة ذات معنى ومسؤولة يثير أسئلة تكاد الإجابة عنها تكون متعسرة: أين سيكون مكانها؛ ومن سيكون الخليفة؛ وكيف سيتم انتخابه؛ وما هي المؤهلات المطلوبة؛ وماذا ستكون سلطاته؛ وما نوع السلطة السياسية الي سوف يمارسها إذا وجدت؛ وما هي القضايا التي يستطيع أن يتعامل معها سلطوياً؟ وأخيراً، إلى أي مدى ستكون أحكامه ملزمة. (ما يزال البابا يواجه مشاكل مشابهة).
تعود المخططات المعاصرة لإعادة تأسيس خلافة في الوقت الحالي وراء إلى إلغاء منصب الخليفة على يد مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية العلمانية) في تركيا في العام 1924. (كان لتركيا الحق في طرد الخليفة، وإنما ليس في إلغاء المنصب بأكثر مما يستطيع رئيس الوزراء الإيطالي إلغاء البابوية؛ فذلك موضوع تبت فيه الكاثوليكية العالمية).
لم تكن السمة الفريدة لتنظيم “داعش” تتعلق كثيرا بإعلانه خلافة معاصرة، وإنما قدرته على دعمها بوجود الأراضي –أقرب شيء في مدى قرن إلى تأسيس خلافة مهووسة بالسلطة السياسية والإدارية والعسكرية. ومن المحزن أنها تأسست على يد أفراد غير متسامحين بشكل همجي في رؤيتهم، وعنيفين ووحشيين في إدارتهم، وراغبين في استخدام الإرهاب ضد معارضيهم. لكن كل هذه الملامح البشعة لم تضطر إلى أن تجيء على الحواف –بأكثر مما يضطر كل البابوات إلى أن يكونوا وحشيين. لكن الممارسات التي تعز عن الوصف أصبحت العلامة المميزة لماركة “داعش” –وكان ضحاياه الأساسيون من المسلمين في غاليتهم العظمى –من السنة والشيعة على حد سواء.
بنفس القدر من البلاء كانت ممارسة “داعش” للتكفير، إعلان أفراد -حتى من المسلمين- بأنهم غير مسلمين أو “كفار”. وبالنسبة لـ”داعش” كان القصاص على ذلك في الغالب هو الموت. لكن هناك الكثير من الحركات السلفية أو من غلاة المسلمين الأصوليين، والتي تمارس أيضا تكفيرا لاهوتيا، حتى لو لم يقتض الحال الحكم بعقوبة الموت بالضرورة. وفي الحقيقة، ليست ممارسات بعض أكثر هذه الحركات تشدداً ضرباً من الإرهاب المباشر -لكن مواعظها وتمويلها الهائل ساعدت بشكل غير مباشر ظهور أعداد ضخمة من الحركات والأفراد غير المتسامحين والمتطرفين حول العالم، العديد منهم في الحقيقة عنيفون، أو حتى إرهابيون.
سوف يكون سقوط “داعش” موضع ترحيب لدى معظم المسلمين بالإضافة إلى الغرب. لكن علينا عدم الاعتقاد بأن الإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام سوف ينتهي بشكل آلي. فهذا الإرهاب، كما يعرفه على نحو موسع المتخصصون في هذا الشأن، لا ينبثق بشكل أساسي من اللاهوت -إنه من إفراز السياسة والاجتماع والأقليات المحرومة، أو حتى الأفراد الذين يواجهون مشاكل والساعين إلى تبرير أيديولوجي للتعبير عن الغضب الناجم عن حالتهم المرضية الشخصية.
لكن هناك حقيقة عقلانية تبقى ماثلة: أن الحروب غير المتوقفة فعليا والتي قدحت زنادها بشكل رئيس الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين في أجزاء ضخمة من الشرق الأوسط، أدت إلى تقسيم المنطقة حيث قتل أكثر من مليون مسلم في هذه الحروب وما نجم عنها من فوضى. كما أنها تسببت في كوارث مادية وتشريد مجتمعي ونفسي كبير، والتي ما تزال آثارها أبعد ما تكون عن النهاية. وما تزال التداعيات تظهر بوتيرة ترتفع يومياً في اليمن والصومال وأفغانستان وسورية، من بين أماكن أخرى. وتشكل هذه الظروف العنيفة أرضاً خصبة لمظاهر الغضب والكراهية واليأس والاغتراب والتشويش النفسي. فإذا كان الجنود الأميركيون يعانون بأعداد ضخمة من اضطرابات ما بعد الصدم – مما يقود إلى معدلات انتحار عالية- فلماذا لا تكون اضطرابات ما بعد الصدمة بين المسلمين أكبر بمائة مرة؟
وهكذا، طالما كانت الظروف الراديكالية موجودة، فإن الظروف المواتية لمزيد من الإرهاب سوف تستمر في الوجود. وحتى في الغرب، سوف يكون هناك دائما حفنة من الشباب المسلمين المهمشين نفسياً ومجتمعياً، والناضجين للتجنيد في أعمال إرهابية. وفي معظم الحالات، يمكن تعقب جذر المشكلة إلى نفسية غير سوية تكتسي لباس العمل الديني المقدس. ويتساءل المرء عن السبل لتوقف هذه الحالات تماماً. كما أن العنف النفسي ليس مقصوراً على المسلمين في الغرب بأي شكل من الأشكال.
لكن تدمير “داعش” في سورية والعراق يشكل تطورا مهما بشكل خاص. لم يعد يوجد الادعاء الدرامي الذي كان ذات مرة بتأسيس خلافة في منطقة مادية محسوسة لإبهار وإغواء الكثيرين. وبشكل عام، انتهى ازدهار الوردة. وقد أصبحت الحقائق التي تكشفت عن وحشية الحياة في أراضي “داعش” معروفة جيداً في العالم الإسلامي، حيث الأغلبية الجامحة من المسلمين مرعوبة منها. ولا يدين هؤلاء المسلمون مفهوم الخلافة في التاريخ الإسلامي، لكنهم بالتأكيد يدينون هذا التعبير البشع والعنيف عنها.
وهكذا اليوم، إذا قال متطرف مسلم طامح “لدي رؤية تاريخية كبيرة، ما رأيكم في خلق خلافة؟” يُرجح أن عدداً قليلاً جداً من الناس سوف يكون راغباً في إعادة بعث مثل هذه الظروف للعنف. ومع حلول هذا الوقت، كان معظم المسلمين “هناك وفعلوا ذلك”. وغني عن البيان أن فكرة الخلافة، الفكرة الجديدة اللامعة الجاهزة لاجتذاب الشباب الغاضب والمغامر أو المثالي، فقدت بريقها. ومع ذلك، قد يحاول آخرون ادعاء إقامة خلافة مهلهلة في منطقة قصية أو أخرى، سوف تلقى على الأرجح القليل من الجاذبية، إلا من خلال القوة الوحشية.
تبدو التشابهات مع الحركة الشيوعية مفيدة. الأساس النظري للشيوعية -درجة عالية من اشتراكية الدولة- سوف لن يموت. لكن التجربة مع الشيوعية في الاتحاد السوفياتي صنعت مجتمعاً بائساً إلى درجة أنه حتى المعجبون بروسيا لم يعودوا يقبلونه. وثمة العديد من وسوف يواصل العديد من العقائديين اليساريين إقامة قضية أن روسيا ببساطة نفذت التجربة الشيوعية بشكل رديء جداً، وأن الأمور لم يكن يجب أن تكون كذلك، وأن الأنموذج السويدي للمجتمع والحكم هو أقرب إلى المثال الشيوعي.
مع ذلك، يقترب المسار الحالي لـ”خلافة” داعش من نهايته. وسوف يكون هناك حتماً بعض الذين سيحاولون استغلال قوة الفكرة مرة أخرى -كما كان الحال مع اشتراكية الدولة الاستبدادية- لكن ذلك يصبح في أغلبه تمرينا في الفرض الوحشي للسلطة، وليس تمرينا في الفكر السياسي الإسلامي. وتستطيع الولايات المتحدة أن تساعد من خلال خفض حملاتها للتدمير العسكري بشكل حاد؛ فقد كانت هذه الحملات هي التي تسببت في ولادة “داعش” في المقام الأول، وهي تظل ينبوعا رئيسيا للتطرف.
جراهام أي. فولر
صحيفة الغد