رد اعتبار الاشتراكية

رد اعتبار الاشتراكية

ربما تكون أزمة جائحة كورونا، وتداعياتها الاقتصادية الكارثية، هي الأخطر في عمر النظام الرأسمالي العالمي، فأزمات الرأسمالية كانت دورية، ثم تقلص الفارق الزمني بين كل أزمة والتي تليها، فبعد ما يزيد قليلا على عشر سنوات، بدت أزمة 2008 صداعا خفيفا، لو قسناها إلى حالة الدمار الشامل، الذي نعيشه الآن، بما كشف عن وحشية المصير الذي انتهت إليه وصنعته الرأسمالية، والذي يدمر البشرية بأكثر من أي جائحة وأي فيروس، ويدفن الحد الأدنى من القيم الإنسانية، بما قد يستدعي الاشتراكية كنقيض تاريخي للرأسمالية، ويرد الاعتبار للقيم الاشتراكية، رغم ذبول، وتداعي نظم ما كان يعرف باسم المعسكر الاشتراكي السوفييتي، قبل نحو ثلاثين سنة، وهو الزمن نفسه، الذي توحشت فيه الرأسمالية، وكادت تقضي على أي معنى نبيل للوجود الإنساني.
ومنعا لأي التباس أو سوء فهم، فالاشتراكية المقصودة برد الاعتبار اليوم، في ما نرى، هي بالضبط القيم الاشتراكية، وليست تطبيقات تاريخية فات أوانها، ولا العودة لنظم الفلك السوفييتي السابق، وكانت نظما في التحكم بالإنسان، لا لتحريره من الاستغلال والحاجة، وانطوت على محو الحريات العامة والخاصة، وعلى تحكم بيروقراطي مريع، أفسد الفكرة الجذابة، وجرّدها من مزاياها المتصورة، وكون طبقة استغلال جديدة، فاقمت أجواء من الرعب العام، حتى إن كانت هذه النظم، نجحت في تحقيق أهداف أخرى، كان أهمها التصنيع الشامل لمجتمعاتها المتخلفة، ونشر التعليم وترقية الرعاية الصحية، بمقابل بدا باهظا، من اعتقالات وتعذيب ومذابح، وإن كان تاريخ الرأسمالية أسوأ بما لا يقاس، فالرأسمالية هي أم الظاهرة الاحتلالية الاستعمارية، والتنافس على نهب واعتصار موارد أغلب الشعوب، وتذويب هوياتها القومية والثقافية، ونزح فوائض القيمة التاريخية إلى عواصم الرأسمالية الكبرى، وإدارة حروب شنيعة، قتلت مئات الملايين من الناس، ورعت نظم بطش ديكتاتوري في أربع جهات الدنيا، وأدت الأمل في نيل العدالة والحرية.
وقبل نحو قرن إلا قليلا، كانت أزمة الكساد العظيم للرأسمالية، التي عبرت من أواخر عشرينيات القرن العشرين إلى ثلاثينياته، وتوازت مع نذر وحوادث الحرب الكبرى الثانية، المسماة زورا بالعالمية، وفي وقت الحرب وبعدها، ظهرت أفكار لإنقاذ الرأسمالية، بعد أن تكشف عوار نظرية آدم سميث، وتعويله على ما يسمى قانون السوق ومفعوله السحري المزعوم، ومع صدمة الكساد، توحش الإفقار الواسع لغالبية السكان في الدول الرأسمالية وقتها، وضعف الطلب على المنتجات والبضائع، ووقتها كانت الفكرة الاشتراكية في وضع الهاجس المخيف للرأسمالية، وكانت أحزاب الاشتراكية ونقاباتها نشيطة، وهو ما دفع المفكرين الرأسماليين إلى بعض الخروج عن أصولية اقتصاد السوق، ودعا جون مينارد كينز، إلى تدخل الدولة في الاقتصاد، وإنشاء قطاعات عامة، بعد ما تبين فشل فكرة سميث أبو الرأسمالية، وتركيزه الليبرالي المنشأ، على أن جري الأفراد وراء مصالحهم الخاصة، سوف يحقق بالحتم مصالح المجتمع ككل، وكانت نظرية كينز في التدخل متعددة الأهداف، فهي تنشط دواعي الطلب في السوق، وتزيد دخول الأفراد العاملين في القطاعات المملوكة للدولة، وتمتص جانبا كبيرا من البطالة المتفاقمة، وفي ما بعد الحرب، ومع تواصل فصول التنافس مع المعسكر الاشتراكي، جرى تطور في الوظائف الاجتماعية للنظم الرأسمالية، كإتاحة التعليم بالمجان، أو إتاحة الرعاية الصحية بالمجان، والتقدم إلى ما عرف تاريخيا باسم «دولة الرفاه»، أي تحصيل الدولة لضرائب أكثر، بنظام الضرائب التصاعدية، مقابل تقديم الخدمات الأساسية لمجموع السكان، وهي صيغة اشتراكية الهوى، كادت تنقرض في قلاع الرأسمالية وعواصمها الكبرى، إلا من استثناءات في دول إسكندنافيا في الشمال الأوروبي، وإلى حد أقل في قلب أوروبا الألماني وما حوله، وكان السبب في التداعي مفهوما، فقد زال خطر النظم الاشتراكية الأوروبية بعد انهيارها، وعادت الرأسمالية إلى نظرية الخصخصة الشاملة، وتقلصت ظواهر القطاعات العامة المملوكة للدولة، حتى قبل السقوط الفعلي للمعسكر السوفييتي، مع صعود ثاتشر في بريطانيا وريغان في أمريكا، خلال ثمانينيات القرن العشرين، وجرى تعميم التصور نفسه عبر المؤسسات المالية الدولية، من نوع صندوق النقد والبنك الدوليين، مع وصفات التثبيت النقدي والتكييف الهيكلي، أي الخصخصة وضغط الإنفاق الاجتماعي، مع تحطيم كافة الحواجز الحمائية للاقتصادات الناشئة، وادعاء أن الرأسمالية المتوحشة هي قدر العالم، مع تضخم الاقتصاد غير المرئي، وتراجع التعويل على الاقتصاد الإنتاجي، وتركيز الثروات في يد القلة، إلى أن كانت النتائج على ما نرى، مضاربات وإدارة خفية، انتهت إلى ما يسمى اليوم عند المنتقدين «رأسمالية الكوارث»، فحجم ديون الدول يصل اليوم إلى 320 تريليون دولار، بما يزيد بنحو أربع مرات عن حجم الناتج الإجمالي العالمي، الذي لا يزيد عن 90 تريليون دولار، توقع صندوق النقد الدولي، أن تتراجع مع تداعيات كورونا إلى 81 تريليون دولار، وديون أمريكا القائدة للرأسمالية، تجاوزت وحدها 23 تريليون دولار، أي أكبر من حجم ناتجها القومي الإجمالي، والدول المدينة الأضعف تدفع فوائد وأقساط ديون تزيد مرات عن أصل مبالغ القروض، و26 مليارديرا يملكون وحدهم، ما يساوي عوائد عمل ودخول نصف سكان العالم، و57% من إجمالي البشر، يملكون 2% لا غير من ثروات العالم، وصارت القاعدة الحاكمة في أغلب الدول، أن واحدا في المئة من السكان يملكون نصف إجمالي الثروة الوطنية، ولا بأس أحيانا، من ترك هوامش تنفيس، وإنشاء معارضات سياسية لا تمس بقرة الرأسمالية المقدسة، ودفع الشعوب المقهورة لخوض حروب أهلية، لا تفيد سوى عواصم تصدير السلاح، فحجم الاتفاق العسكري العالمي اليوم، يصل إلى تريليون و700 مليار دولار سنويا، تحتكر أمريكا وحدها 42% منه، مع أكثر من ثلث عوائد تصدير السلاح عالميا.

من فضائل جائحة كورونا، رغم فوائض المآسي التي راكمتها، أنها تكشف عبث الرهان على جواد الرأسمالية المتوحشة

ومع أزمة جائحة «كورونا»، وانكشاف الحصاد المريع البائس للرأسمالية المتوحشة، التي تسمى أحيانا بالليبرالية الجديدة أو «النيوليبرالية»، فقد لا تجد عواصمها الكبرى منقذا مثل كينز، والمفكر الاقتصادي الليبرالي الأمريكي بول كروجمان، الحاصل على جائزة نوبل، يقول في حوار حديث مع «بي. بي. سي»، إنه لا يرى مخرجا قريبا متاحا من العواقب الاقتصادية لأزمة كورونا، ففي أزمة 2008 المالية، كان الحل أن تدفع الدولة الأموال لإنقاذ البنوك الكبرى المفلسة، وربما لا يكون من حل هذه المرة، إلا بالخروج على قواعد المصير البائس، الذي انتهت إليه الرأسمالية، ورد الاعتبار لقيم وتطبيقات الاشتراكية، والتنمية المستقلة المعتمدة على الذات، بعد نهاية معركة العولمة إلى انتصار المثال الصيني، الذي قد لا يكون اشتراكيا أصوليا، تسوده الملكية العامة، بل اقتصادا مختلطا، يسميه أصحابه باقتصاد السوق الاشتراكي، ويصفه البعض برأسمالية الدولة، تملك فيه الدولة نصف الاقتصاد، وتخطط عمل القطاع الخاص، وتدير التعليم والرعاية الصحية المجانية بالكامل، وهو ما مكن الصين من فوز عاجل في معركة كورونا، وبكفاءة تعبوية وتنظيمية وتكنولوجية مذهلة، سبق أن أهلّت الصين للفوز في حرب العولمة التجارية، وهزيمة أمريكا بالنقاط، وقد يتوقف البعض عند سلطوية نظام الحكم الصيني، واعتماده على سيادة الحزب الواحد، وهذه ملاحظة في محلها تماما، فقد لا يكون مقبولا ولا سهلا، استنساخ نموذج الحكم الصيني، وإن كانت الملاحظة الصحيحة، لا تلتفت بما فيه الكفاية إلى تاريخ الصين الحديث، ومعاناتها الطويلة، مع الإذلال الاستعماري الأوروبي والغربي عموما، من حروب الأفيون وما تلاها، فوق عدم التقدير الكافي لتجانس المجتمع الصيني، وهو أكبر مجتمعات الأرض عددا، وفيه قومية واحدة هي «الهان» غالبة باكتساح، وبنسبة تفوق التسعين في المئة، وكلها ملامح صينية بامتياز، قد لا تستسيغ تقليد النظام الصيني السياسي، وإن جاز، ربما لزم، الاهتداء بمثال الصين اقتصاديا وتكنولوجيا، وبالقيم الاشتراكية التي ينطوي عليها ضمنا، بعيدا عن المماحكات الأيديولوجية المغلقة الأفق.
وبالجملة، فقد يكون من فضائل جائحة كورونا، رغم فوائض المآسي التي راكمتها، أنها تكشف عبث الرهان على جواد الرأسمالية المتوحشة، وترد الاعتبار للقيم الاشتراكية عموما، وتحيي التطلعات الإنسانية لاقتصاد كفء وعادل اجتماعيا، فلا قيمة لحرية سياسية بدون حرية اجتماعية، ولا قيمة لحرية التصويت الانتخابي بدون حرية رغيف العيش، ولا تناقض بين قوة الدولة وقوة المجتمع، ربما بشرط ضمان الاستقلال الوطني وحكم القانون وإطلاق الحريات العامة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

عبدالحليم قنديل

القدس العربي