تتعرض مدينة القدس العربية وبالتحديد منطقة الحرم الشريف هذه الأيام لحملة ضارية غير مسبوقة في تاريخ المدينة بهدف خلق وقائع جديدة على الأرض بحجة العملية العسكرية التي نفذها صباح الجمعة 14 تموز/يوليو ثلاثة شبان من بلدة أم الفحم، والذين يعتبرون من الناحية التقنية والقانونية مواطنين إسرائيليين. وكالعادة تستغل الحكومات المتعاقبة في تل أبيب أي عمل من هذا النوع لخلق حقائق جديدة وفرض عقوبات جماعية وتمرير قوانين عنصرية أوسع والتقدم خطوات أكبر نحو الضم والتهويد والمصادرة والتضييق على الشعب الرازح تحت الاحتلال لأكثر من 50 عاما. القانون الدولي بالنسبة لإسرائيل لا وجود له، ولا تتعامل معه إلا إذا خدم مصالحها وسخر لتحقيق أهدافها التوسعية الاستيطانية الاحلالية التفريغية بحيث يصبح تحقيق حلم دولة يهودية عنصرية «نقية» بين النهر والبحر أقرب إلى التحقيق في ظل الأوضاع العربية المزرية في الوقت الحاضر.
وأود في هذا المقال على سبيل التذكير فقط أن أراجع مع القراء بعض قرارات الأمم المتحدة بخصوص القدس والتي أصبحت بمجرد اعتمادها قانونا دوليا. وتشمل هذه المراجعات أهم قرارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية واليونسكو والتي في مجموعها تـنتصر لوضع القدس الخاص ولا تعترف لا بالسيادة الإسرائيلية عليها ولا بالإجراءات المتلاحقة التي تهدف إلى تغيير الوضع القائم خاصة وأن شيئا من هذه القوانين لم يلغ ولم يجر عليه تعديل أو إضافة أو مراجعة. إذن فالذي يدافع عن القدس وينتصر لها يكون إلى جانب القانون والحق والعدل، والذي يخذل القدس يختار جانب الظلم والقهر والبلطجة وابتلاع الهزيمة والاستسلام، لا فرق إن كان رئيسا أو ملكا أو سلطانا أو مدنيا أو عسكريا.
أولا: القدس في قرار التقسيم 181
نص القرار 181 الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 على اعتبار القدس «كيانا منفصلا» تخضع لنظام دولي تديره الأمم المتحدة عن طريق مجلس الوصاية. وكلف مجلس الوصاية بإدارة المدينة نيابة عن الأمم المتحدة، حيث طلبت الجمعية العامة من مجلس الوصاية اعداد خطة شاملة لإدارة القدس تشمل تعيين طاقم إداري وهيئات تشريعية وقضائية ونظام يدير الأماكن المقدسة بحيث يسهل الوصول إليها دون أن يمس من «الوضع الراهن» الذي كانت تتمتع به. لكن الحرب الإسرائيلية العربية الأولى التي انطلقت صباح 15 ايار/مايو 1948 بعد إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين أدت إلى قيام الميليشيات اليهودية باحتلال الجزء الأكبر من القدس وخاصة الجزء الغربي منها. لم تعترف ولا دولة واحدة في العالم بهذا الاحتلال والضم ولم تفتح أي دولة سفارة لها في القدس بما في ذلك الحليف الأهم الولايات المتحدة، وبقي الوضع القانوني للقدس كـ «كيان منفصل» ولم يتم تحدي أو إلغاء هذا القرار، علما أن الأمر الواقع تجاوزه كثيرا غير أن الأمر الواقع لا يعني إضفاء الشرعية، فما بني على باطل يظل باطلا. فادعاء إسرائيل أن لها حق السيادة على القدس باطل ليس لديها ما يبرره من الناحية القانونية. لقد أقر اتفاق الهدنة بين الأردن وإسرائيل بتاريخ 3 نيسان/أبريل 1949 بالأمر الواقع كما كان عند توقيع اتفاق الهدنة دون أن يقر بأي سيادة أو شرعية على الأماكن المشمولة باتفاقية الهدنة.
ثانيا: القدس بعد احتلال
الضفة الغربية عام 1967
مع أن القرار 242 ينص على «عدم جواز الاستيلاء على أراض بواسطة الحرب». لكن إسرائيل قامت رسميا بالإعلان عن توحيد القدس بعد حرب حزيران/يونيو 1967. وأقرت المحكمة العليا الإسرائيلية أن صدور قرار الضم قد حول القدس الموحدة جزءا لا يتجزأ من إسرائيل. فكان رد فعل الأمم المتحدة أن عقدت الجمعية العامة جلسة واعتمدت القرار 2253 بتاريخ 4 تموز/يوليو الذي أكد على عدم شرعية أنشطة إسرائيل في المدينة وطالب بالغائها ولحق به القرار 2254 بعد عشرة أيام الذي يدين فيه إسرائيل لعدم التزامها بالقرار السابق وطالبها مرة أخرى أن تلغي كافة الأنشطة وخاصة تلك التي تعمل على تغيير معالم المدينة. أما مجلس الأمن فقد أصدر مجموعة من القرارات تطالب إسرائيل بعدم تنظيم استعراض عسكري في المدينة في الذكرى الأولى لحرب حزيران/يونيو (القرارات 250 و 252 و 267). وينص القرار 271 (1969) بعد حرق الأقصى على «حماية الحرم الشريف ووقف كافة الأنشطة التي تعمل على تغيير معالم المدينة». أما القرار 298 (1971) فقد كان حادا أكثر في انتقاده للممارسات الإسرائيلية حيث أكد «أن كافة الإجراءات الإدارية والتشريعية التي قامت بها إسرائيل في المدينة مثل التحويلات العقارية ومصادرة الأراضي غير شرعية، كما دعا القرار إلى وقف كافة الأنشطة والإجراءات التي تحاول تغيير تركيبة المدينة السكانية».
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وتبادل الاعتراف شعرت إسرائيل أنها في وضع أقوى بكثير من قبل، فسارعت إلى ضم المدينة رسميا عام 1980 إلا أن مجلس الأمن اعتمد مجموعة من القرارات ترفض هذا الضم من بينها القرار 476 (1980) الذي أكد مجددا أن «جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل والرامية إلى تغيير معالم المدينة ليس لها أي سند قانوني وتشكل خرقا فاضحا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين» كما أكد القرار أن «كافة الأجراءات التي تعمل على تغيير معالم مدينة القدس الشريف ووضعها الجغرافي والسكاني والتاريخي هي إجراءات باطلة أصلا ويجب إلغاؤها». ثم اعتمد المجلس القرار 478 (1980) الذي شجب سن القانون الأساسي الإسرائيلي الذي أعلن ضم القدس الموحدة إلى إسرائيل واعتبره انتهاكا للقانون الدولي وطالب من جميع الدول عدم الاعتراف به وطلب من الدول التي لديها سفارات في القدس نقلها خارج المدينة. واستجابت كوستا ريكا لهذا القرار ونقلت السفارة الوحيدة التي كانت في القدس إلى تل أبيب.
ثالثا: الرأي الاستشاري
لمحكمة العدل الدولية
بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 صوت 14 قاضيا من مجموع 15 (القاضي الأمريكي الوحيد، توماس بورغنتال، الذي خرج عن الإجماع ) لصالح الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول «لا شرعية» بناء الجدار الفاصل الذي شرعت إسرائيل في بنائه على الأرض الفلسطينية المحتلة إبتداء من عام 2000. وتطرق القرار إلى ما هو أبعد من الجدار، بحيث أقر أن «بناء الجدار الذي يصل طوله إلى 425 ميلا والذي يقطع الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية ويضم القدس الشرقية غير قانوني حسب القانون الدولي ويجب أن يهدم». وجاء في الرأي الاستشاري «إن إسرائيل ملزمة بإنهاء انتهاكاتها للقانون الدولي وملزمة بالوقف الفوري لأعمال بناء الجدار الذي يجري بناؤه داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك داخل القدس الشرقية وحولها، وملزمة بتفكيك هذا البناء أينما وجد وعلى الفور». وأضاف الرأي الاستشاري أن «الأرض التي استولت عليها إسرائيل خلال حرب عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية هي أراض محتلة». وأوضحت المحكمة أن عدم شرعية الجدار ليست نابعة فقط من أنه يعثر حياة الفلسطينيين بل لأنه يقيد حق الفلسطينيين بممارسة «حق تقرير المصير».
رابعا: قرارات منظمة التربية والعلم والثقافة (يونيسكو)
كانت اليونسكو أول منظمة دولية تقبل عضوية فلسطين كدولة كاملة العضوية بتاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبرعام 2011. ونص القرار الذي نجح بغالبية 107 دول وعارضته 14 دولة بينما اختارت 49 أن تصوت بـ «امتناع» على ما يلي:
«إن المؤتمر العام، وقد أحاط علماً بأن فلسطين تقبل الميثاق التأسيسي لليونيسكو، وأنها مستعدة للوفاء بالالتزامات التي ستلقى على عاتقها بموجب انضمامها، ودفع اشتراكاتها المالية إلى المنظمة، وكما أحاط علمًا بأن المجلس التنفيذي قد أوصى في دورته السابعة والثمانين بعد المئة بقبول انضمام فلسطين إلى عضوية اليونسكو، فإن المؤتمر يقرر قبول فلسطين عضوا في اليونسكو».
وتناولت اليونسكو مسألة القدس بشيء من التفصيل في قرارها الذي إعتمد يوم 13 تشرين الأول/اكتوبر 2016 ونص بشكل واضح لا لبس فيه، أن الحرم الشريف مقدسات إسلامية فقط، أما القدس كمدينة ففيها مقدسات للديانات الثلاث. القرار يحتوي كثيرا من التفاصيل أبعد بكثير من اعتبار الحرم الشريف والحائط الغربي للمسجد الأقصى مقدسات إسلامية فقط بل يتجاوز ذلك للحديث عن ممارسات الاحتلال والحصار المضروب على غزة وتهديد التراث ورفض إسرائيل التعاون مع اليونسكو وتنفيذ توصياتها. القرار كشف زيف الرواية الصهيونية التي تحاول أن تفرضها على المجتمع الدولي حول ما يدعى «جبل الهيكل وحائط المبكى» وهو مصطلح لم تتطرق له قرارات الأمم المتحدة لا من قريب ولا من بعيد. فقد ذكر مجلس الأمن في القرار 271 بعد حريق المسجد الأقصى بتاريخ 21 آب/أغسطس 1969 أنه يشعر بالأسى للخراب الكبير الذي لحق بـ»المسجد الأقصى المقدس» نتيجة الحريق الذي لحق به تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي ولم يلحق بالتسمية مصطلح جبل الهيكل.
كما صوتت اليونسكو في الثاني من ايار/مايو 2017 على قرار جديد يعتبر إسرائيل دولة محتلة للقدس. وصوت أعضاء المجلس التنفيذي لليونيسكو في جلسة خاصة ومغلقة بمقر المنظمة في باريس لصالح تأكيد القرارات السابقة للمنظمة باعتبار إسرائيل محتلة للقدس، ورفض سيادة الأخيرة عليها. وجرى اعتماد القرار بأغلبية 22 صوتا، ومعارضة عشرة أصوات. وينص القرار على أن ضم إسرائيل للقدس الشرقية «لاغٍ وباطل» ويدعو إسرائيل إلى إلغاء أي إجراءات تشريعية وإدارية تتخذ «لتغيير طابع ومكانة مدينة القدس». ويطالب القرار إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، بوقف «الحفريات وفتح الأنفاق والأعمال والمشاريع المستمرة في القدس الشرقية».
ما يجري الآن في القدس وحول القدس معركة حقيقية تتعلق بوضع القدس القانوني.
إسرائيل تحاول أن تفرض سياستها غير الشرعية وتجعلها فوق القانون الدولي. وإذا بقيت ردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية على هذا المستوى، فلن نستغرب أن يأتي يوم يشارك فيه بعض الحكام العرب في احتفالات تدشين مبنى الهيكل في مكان أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وربما يقترح أحد زعماء الشرطة السابقين أو اللاحقين بحذف آية الإسراء من القرآن الكريم حتى لا يتهم العرب بالتحريض ومعاداة السامية.
عبدالحميد صيام
صحيفة القدس العربي