تحديات عديدة: أبعاد التحول في السياسة التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط

تحديات عديدة: أبعاد التحول في السياسة التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط

3186

تكشف التحركات التركية الأخيرة في المنطقة عن اتجاه أنقرة إلى إجراء تغييرات ملحوظة في سياستها الخارجية، في اتجاه إعادة الانخراط في بعض الأزمات الإقليمية، وتفعيل المصالحة مع الأكراد، فضلا عن تحقيق مزيد من التقارب الاستراتيجي مع بعض القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد التداعيات السلبية العديدة التي واجهتها بسبب دعمها للتيارات الإسلامية الحاضنة للتطرف، وهو ما دفع بعض الدول إلى تبني مواقف حذرة تجاهها. لكن يبدو أن ثمة تحديات عديدة سوف تواجه أنقرة في هذا السياق، ترتبط بالتحولات المستمرة في الصراع السوري، والتداعيات الإقليمية المحتملة للمفاوضات النووية بين إيران ومجموعة “5+1”.

مؤشرات متعددة:

ثمة مؤشرات عديدة تكشف عن حدوث تحول في السياسة التركية تتمثل في:

1- تبني خطوات أحادية تجاه الأزمة السورية: وهو ما انعكس في العملية العسكرية التي قام بها الجيش التركي، في 21 فبراير 2015، لنقل رفات سليمان شاه، جد مؤسس الدولة العثمانية، وإجلاء الجنود الأتراك الذين كانوا يحرسون ضريحه، وإحكام السيطرة على منطقة تقع غرب مدينة “كوباني” السورية، وهو ما يمكن أن يمثل نقطة تحول في دور تركيا في الصراع السوري، خاصة أنها أول محاولة للتدخل العسكري من جانب أنقرة منذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011. ويبدو أن تركيا تسعى من خلال تلك الخطوة إلى اختبار قدراتها العسكرية خارج حدودها، وهو ما يبدو جليًا في حديث رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو عن أن “العملية العسكرية تثبت ما نستطيع القيام به عند الضرورة”.

! واللافت في هذا السياق، هو أن هذه الخطوة تزامنت مع توقيع اتفاق بين اشنطن وأنقرة، في 19 فبراير 2015، على تدريب العناصر السورية “المعتدلة”، وهو ما يمثل محاولة من جانب أنقرة لفرض تغييرات ملموسة على توازنات القوى داخل سوريا، على المدى البعيد، بشكل يمكن أن يؤدي إلى تصعيد حدة الضغوط التي يواجهها نظام الرئيس السوري بشار الأسد ويدفعه إلى تغيير نهجه باتجاه تقديم مزيد من التنازلات في أية تسوية سلمية محتملة.

2- تفعيل المصالحة مع الأكراد: اتخذت أنقرة خطوات ملموسة في إطار تفعيل المصالحة مع حزب العمال الكردستاني، حيث دعا عبد الله أوجلان زعيم الحزب، في 28 فبراير 2015، إلى عقد مؤتمر في الربيع القادم لبحث قضية التخلي عن العمل العسكري. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن المصالحة التركية مع حزب العمال الكردستاني لا تنفصل عن التطورات التي طرأت على الساحة السورية، بعد أن ساهم الأكراد، بدرجة ملحوظة، في إجبار تنظيم “داعش” على الانسحاب من مدينة “عين العرب” (كوباني)، حيث تسعى أنقرة إلى تأمين مصالحها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب مع “داعش”، خاصة لجهة احتواء أية تطلعات كردية لاستثمار تلك الحرب في تحقيق أهداف قومية. وقد انعكس ذلك في حديث وزير الدفاع التركي عصمت يلماز، في 5 مارس 2015، عن أن “تركيا قدمت الدعم العسكري لقوات البيشمركة ولكنها كانت سرية، لأننا كنا نريد أن تعلم البيشمركة فقط أننا نساعدهم في الحرب”. وربما يمكن القول إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحاول استغلال هذه الخطوة في تحقيق قدر أكبر من المكاسب في الانتخابات القادمة التي سوف تجري في يونيو 2015.

3- تطوير العلاقات مع بعض القوى الإقليمية: قام أردوغان بزيارة السعودية، في 2 مارس 2015، وهو ما مثل، وفقًا لاتجاهات عديدة، مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين في ملفات إقليمية عديدة أبرزها الأزمة السورية. كما أعلن عن توقيع اتفاق بين تركيا وقطر، في 6 مارس 2015، يتضمن نشر قوات مشتركة بين البلدين عند الضرورة، وإجراء مناورات مشتركة، وتبادل خبرات التدريب، بهدف تطوير التحالف الاستراتيجي بين البلدين.

4- دعم غير مباشر للموصل: رغم عزوف تركيا عن الانخراط في التحالف الدولي ضد “داعش”، وهو ما أكده رئيس الاستخبارات الأمريكية جيمس كلابر، الذي قال أن “محاربة داعش ليست أولوية بالنسبة إلى تركيا وأن 60% من داعش يدخلون من تركيا إلى سوريا”، إلا أن ذلك لم يمنع رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو من التأكيد على أن “تركيا سوف تدعم الهجوم في الموصل لكن دون أن تتدخل مباشرة في المعارك”.

عقبات قائمة:

لكن هذه التحركات الإقليمية التركية ربما تواجه عقبات عديدة في الفترة القادمة. فمن ناحية، هناك حديث عن دور إيراني بارز في الإقليم قد يصطدم بالنفوذ التركي، لا سيما في ظل تزايد احتمالات توقيع اتفاق نووي بين إيران ومجموعة “5+1” يمكن أن يتجاوز البرنامج النووي الإيراني إلى التوصل لتفاهمات حول بعض الملفات الإقليمية الرئيسية. ومن ناحية ثانية، ربما يخصم استمرار الدعم التركي للتيارات الإسلامية، إلى حد كبير، من قدرة أنقرة على التحول إلى رقم مهم في بعض الملفات الإقليمية، خاصة أن اتجاهات عديدة باتت تشير إلى أن هذه السياسة التركية لا تختلف كثيرًا عن السياسة التي تتبناها إيران وتسعى من خلالها إلى التدخل في الشئون الداخلية لبعض دول المنطقة.

فضلا عن ذلك، فإن دور أنقرة في الأزمة السورية بدأ يضعف بشكل تدريجي، خاصة مع استبعاد الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، الخيار العسكري لتسوية الأزمة، وتراجع الحديث عن الإطاحة بنظام الأسد، وهو ما يبدو جليًا في تأكيد المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، في 13 فبراير 2015، على أن “الأسد جزء من الحل السياسي”. إلى جانب أن اتجاه حركة “حزم”، التي تنتمي إلى ما يسمى بـ”المعارضة المعتدلة”، إلى حل نفسها بعد المواجهات التي اندلعت مع “جبهة النصرة”، يمثل ضربة قوية للجهود التي تبذلها تركيا وبعض القوى الأخرى، لتدريب المعارضة المعتدلة بهدف إحداث تغييرات في توازنات القوى داخل سوريا لصالحها.

وفي النهاية يمكن القول إن الجهود الحثيثة التي تبذلها تركيا بهدف التحول إلى رقم مهم في معظم الملفات الإقليمية، سوف ترتبط، في كل الأحوال، بمدى دعم القوى الإقليمية الأخرى لها، ومدى قدرتها على إجراء تغيير رئيسي في سياستها الخارجية، للتوافق مع التطورات الجديدة التي طرأت على الساحة الإقليمية.

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية