من الصعوبة إقناع الشعوب العربية بجدوى مؤسسة جامعة الدول العربية، بكل مرافقها ومكوناتها، فهي أمام العواصف والهزات والأزمات في المنطقة ضعيفة، وباهتة، وغير قادرة على اتخاذ قرار مؤثر، أو إحداث وقائع بديلة على الأرض أو إطلاق مبادراتٍ من شأنها أن تطوّق تصدّعا أو تقرب بين وجهات نظر أطراف متصارعة.
منذ أنشئت الجامعة، وهي تشتغل بمنطق مؤسساتي تقليدي متجاوز، وبعقلية تفتقر إلى الواقعية والبراغماتية السياسية، فبدل أن تطور منهجية العمل وتفكر في تكييف وظائفها وأدوارها مع التحولات والمتغيرات التي طاولت المنطقة والعالم، نلاحظ أنها ظلت متشبثة بمقارباتٍ تراعي أمزجة الأنظمة، وتخضع لمعيار التوازنات التي يجب أن تكون المرجعية والآلية المعتمدة لضمان الحد الأدنى من الانسجام والتوافقات، ويتم هذا على حساب المصالح الاستراتيجية الكبرى للمجتمعات العربية والأولويات الحيوية التي تعتبرها هذه المجتمعات أساسية ومصيرية.
المؤسسات عندما تترهل وتتخشب، وتتحول إلى مجرد بنايات بدون روح ولا مهام واضحة وملموسة، تكون رديفا للموت والعدم، ولا أحد يمكنه أن يؤمن بأنها في مثل هذه الشروط قادرة على القيام بدور ما، وتلبية طلب أو التفاعل بشكل إيجابي مع ملف من الملفات.
ما جرى ويجري في القدس، وتحديداً في موقع المسجد الأقصى، يسائل بقوة وبكيفية مستفزة
“توهّمت إسرائيل أن الأوضاع المتردّية في المنطقة العربية ستساعدها على تطبيق مخططها” جامعة الدول العربية، ذلك أنه في مختلف الأزمات والهجمات والمخططات الإسرائيلية للمساس بالوضع التاريخي، وبرمزية المسجد وقدسيته، كان على هذه المؤسسة التدخل بكل الوسائل الممكنة، وبلورة استراتيجية للتحرك الدبلوماسي عربيا ودوليا، وبأجندة وأهداف محددة، لكن الجامعة، وكعادتها، تتقن الخطابة وتتفنن في صياغة بيانات الشجب والتنديد المشحونة بلغةٍ يبدو ظاهرها وعيدا وتهديداً، وباطنها خضوعاً ورضوخاً للأمر الواقع، لأن إسرائيل تدرك جيدا الوزن الحقيقي لجامعة الدول العربية وجدية خطاباتها، وتعي أكثر من غيرها حدود هامش المناورة العربية التي لا تتعدّى البراعة في اختيار كلماتٍ تسعى جاهدة للتخفيف من حدّة غضب الشارع العربي، فهل يستطيع بيانٌ مكتوب بلغة متوترة ومهزومة تحيل على التاريخ والجغرافيا والمقدّس والرموز، ويتحدّث بنفسٍ متعبٍ عن القرارات الأممية والمسؤوليات والممارسات المرفوضة أخلاقيا وسياسيا وتاريخيا، أن يمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي من التمادي في سياساتها الاستفزازية؟
كل شيء واضح تماماً، ما كانت إسرائيل لتتخذ قرارا بإقامة بوابات إلكترونية لتفتيش المصلين قاصدين المسجد الأقصى، لو لم تلمس أن هناك هشاشة عربية شاملة وأوضاعا متأزمة، تصب في مصلحتها، ولولا أن الوحدة الفلسطينية مفكّكة والعلاقات العربية –العربية محتقنة، والأجواء ملغومة، واللغة المتداولة عربيا تقطر تخوينا وكراهية وحقدا، خصوصا في غياب مؤسسات ديمقراطية تنفيذية وتشريعية منتخبة، تستند إلى الشرعية الشعبية وتشتغل وفق منظوماتٍ قانونية ودستورية، تفصل بين السلطات، وتحدد أدوار كل مؤسسةٍ على حدة، وتؤمن بالحرية واحترام حقوق الإنسان.
للقدس الشريف مكانة خاصة في مخيلات العرب والمسلمين، وهم يدركون أن المكان الذي يرمز إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول الكريم ومدينة الأنبياء والتسامح المليئة بالرموز التاريخية والدينية، والتي تجتهد إسرائيل للسيطرة عليها وامتلاكها بادعاء أن المدينة جزء من تاريخها، والعمل على تطويعها للتأويل الذي يخدم مصالحها وتفسيرها للصراع مع الفلسطينيين، بيد أن الإيمان وحده بقيمة القدس والمسجد الأقصى، ورمزيتهما، لا يكفي لكبح جماح سلطات الاحتلال، ولا الحد من أحلامها الهادفة إلى ضم القدس الشرقية، وطمس هويتها العربية.
وكلما أقدمت إسرائيل على مغامرة غير محسوبة النتائج بدقة، من قبيل إقامة محاكم تفتيش إلكترونية للتأكد من نيات المقدسيين وباقي المؤمنين من المناطق المجاورة، طرحت على الدول العربية والإسلامية تحديات كبيرة، تتطلب مواقف حاسمة وصريحة، علما أن الحكومة اليمينية الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو، تتعمد إفشال أي محاولة أو مبادرة لحل الملف الفلسطيني، وكلما لاحت بوادر لتنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تعمد هذه الحكومة إلى افتعال احتقانات وإيجاد شروط توتر، للحيلولة دون تحقيق أي تقدم على طريق أي تسوية عادلة ومنصفة، بل تضرب عرض الحائط حتى بجهود حليفها الاستراتيجي، الولايات المتحدة الأميركية.
هناك فرصة تاريخية لتتغلب الفصائل الفلسطينية، لاسيما حركتا فتح وحماس، على حواجز نفسية وموانع ذهنية، لإنهاء صراع عبثي، لا معنى له تاريخيا وسياسيا واستراتيجيا، فحكومة التحالف اليميني التي يرسم خريطة طريقها نتنياهو، تعيش حالة ارتباك وتخبط، فحسب صحيفة لوموند الفرنسة الرصينة، كان إقامة البوابات الإلكترونية قرارا شخصيا اتخذه نتنياهو، اعترضت عليه المخابرات الداخلية والمؤسسة العسكرية. وفي بالمقابل، ساندته المؤسسة الأمنية، وجاء لإرضاء الجناح المتشدّد في التحالف الذي يقوده نتنياهو، والذي يميل إلى نهج سياسة القبضة الحديدية تجاه الفلسطينيين.
كما أن نزوع الحكومة الإسرائيلية إلى التقليل من حجم الغضب الفلسطيني، متوهمة أن
“للقدس الشريف مكانة
خاصة في مخيلات
العرب والمسلمين” الأوضاع المتردّية في المنطقة العربية ستساعدها على تطبيق مخططها، لكنها أخطأت الحساب، ولم تقرأ جيدا حساسية الفلسطينيين والمقدسيين بشكل خاص، حيال المساس بالمسجد الأقصى، فالمشكل لا ينطوي فقط على حمولة دينية، بل يكتسي بعدا هوياتيا، لآن القدس ترمز إلى المكان الذي يستطيع أن يشعر فيه الفلسطيني بأنه يتمتع بالسيادة، وهنا تأخذ الرمزية السياسية أهمية أكبر من المشاعر الدينية.
تضاف إلى ذلك الأزمة التي تسببت فيها السلطات الإسرائيلية مع الأردن، عندما قتل رجل أمن تابع للسفارة الإسرائيلية في عمّان مواطنين أردنيين، من دون مراعاة الاتفاقيات الموقعة، ومن دون إيلاء أي أهمية لمشاعر الشعب الأردني الذي نفذت جريمة القتل فوق تراب وطنه. ولو حدث هذا في تل أبيب، لاهتزت إسرائيل، وقد وجد نتنياهو نفسه في ورطةٍ، فسارع إلى طمأنة الملك عبد الله، بتهدئة الأجواء في القدس.
هذه المطبات مجتمعة جعلت الحكومة الإسرائيلية تجد نفسها في مواجهة شارع فلسطيني غاضب وملتهب، في غياب مخاطب أو سلطة وسيطة قادرة على ضبط النفوس. وحسب استطلاعٍ للرأي، أجرته القناة الثانية الإسرائيلية يوم 25 يوليو/ تموز 2017، فإن 77% من الإسرائيليين يعتبرون التراجع عن إقامة البوابات الإلكترونية خسارة لحكومتهم، وانتصارا للمتظاهرين الفلسطينيين.
المطلوب فلسطينياً وعربياً وإسلامياً استثمار هذه الأخطاء، وتحويلها إلى مصدر قوة وضغط، لإشعار السلطات الإسرائيلية بأن ما تعتبره فرصة للانقضاض على الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني، بعد سقوط عدد من الأنظمة، وانهيار دول بأكملها، اعتقاد خاطئ بكل المقاييس، لأن إرادة الشعب الفلسطيني وصموده وإيمانه بعدالة مطالبه وقضيته هو العامل المؤثر فعلا على مسار الأحداث، والقادر على تغيير موازين القوى، والتصدي لكل المؤامرات.
العربي الجديد
عبد الصمد بن شريف