تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية عقب ما صرحت به بيونغ يانغ الثلاثاء على أنها تدرس خطة لإطلاق صواريخ من متوسطة إلى بعيدة المدى صوب جزيرة غوام الأميركية في المحيط الهادي، حيث تنشر واشنطن قاذفات قنابل استراتيجية.
وتحدت كوريا الشمالية واشنطن منذ إجرائها اختبارين نوويين العام الماضي، كما اختبرت إطلاق صاروخين عابرين للقارات في يوليو الماضي. تبعهما فرض الولايات المتحدة والأمم المتحدة عقوبات اقتصادية عليها. أمام عجز دولي عن صد طموحات كوريا الشمالية النووية وردع تهديداتها.
وفشلت محاولات الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في ربع القرن الماضي في إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن طموحاتها النووية. وبالرجوع إلى أوائل التسعينات، نجد الولايات المتحدة تعقد المفاوضات مع بيونغ يانغ من ناحية، بينما تتبع سيول استراتيجية الاقتصاد الاشتراكي مع بيونغ يانغ، من خلال تقديم الدعم المالي بالمساعدات والاستثمار حتى مع استمرار الأخيرة في تطوير الأسلحة النووية.
ولكن وبعد أن أجرت كوريا الشمالية اختبارا نوويا في عام 2006، ضغطت الولايات المتحدة على مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على كوريا الشمالية. بيد أن الولايات المتحدة، بناء على طلب من كوريا الجنوبية وخوفا من إغضاب الصين حليفة كوريا الشمالية، فشلت في استخدام نفوذها الدبلوماسي والمالي الكامل لوضع تلك العقوبات حيز التنفيذ.
وظل الهدف على طول الطريق هو حث كوريا الشمالية على الانفتاح على العالم الخارجي والتراجع عن برامجها النووية والصاروخية.
وبالرغم من ذلك، باءت كل تلك المحاولات بفرض العقوبات وتقديم الإعانات بالفشل. حيث تمتلك كوريا الشمالية القدرة الفعلية على ضرب اليابان وكوريا الجنوبية بأسلحة نووية وستتمكن قريبا من تهديد الولايات المتحدة بنفس النوع من الأسلحة.
وبغض النظر عما يعتقده البعض في واشنطن وسيول، فإن زعيم البلاد كيم جونغ أون ليس مُصلحا. وخاطر بشرعيته من أجل إتمام بناء الترسانة النووية التي اشتراها والده وجده بتكلفة مليارات الدولارات والتي راح ضحيتها أيضا الملايين من الأرواح. وحتى لو كان ثمن هذا التسلح النووي هو تهديد بقاء نظامه، سيستمر في الأمر.
ولحماية الولايات المتحدة وحلفائها من تهديد كوريا الشمالية ومنع المزيد من الانتشار النووي، يجب على إدارة ترامب أن تضع حدا لتلك السياسة غير المُجدية المتمثلة في فرض العقوبات على بيونغ يانغ ودعمها في آن واحد.
وبدلا من ذلك، يجب اتخاذ إجراءات تعسفية تجاه المعاملات المالية الأجنبية التي يقوم بها مسؤولو كوريا الشمالية وأيضا تجاه الدول الأجنبية التي تساعدهم. فالعالم الآن يواجه أكبر حالة طوارئ نووية منذ أزمة صواريخ كوبا، وحان الوقت للولايات المتحدة أن تعمل بشكل حاسم تجاه هذه المسألة.
دولة الفساد
وعلى مدى عقود مضت، شكلت كوريا الشمالية أزمة من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لتأتي في المركز الثاني بعد أزمة إيران كأولوية لمنع الانتشار النووي، أو السودان كأولوية إنسانية، أو العراق كأولوية أمنية.
وعقد جميع رؤساء الولايات المتحدة، بدءا من بيل كلينتون، الآمال على انهيار النظام الكوري الشمالي، بينما لم يفعل أي منهم شيئا لتقويضه، بل وفي بعض الأحيان قدم البعض منهم يد العون إما بالمساعدات أو بتخفيف العقوبات.
وأنهت الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة سلسلة من الصفقات التي عقدتها مع كوريا الشمالية وتعدهدت لها فيها بالأموال مقابل وعود كاذبة. ومرة أخرى، وافقت كوريا الشمالية على التخلي عن برنامجها النووي ولكنها لم تنفذ ذلك على أرض الواقع.
وفي عام 1994، وقع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون على أول اتفاقية بين واشنطن وبيونغ يانغ، وهي اتفاقية تعرف باسم “إطار اتفاق”، تعهدت الولايات المتحدة بمقتضاها بتزويد كوريا الشمالية بالوقود حتى يتم إنهاء بناء مفاعلين للطاقة النووية مقابل تعهدات من زعيم كوريا الشمالية، كيم يونغ إيل آنذاك، بتجميد عمل كل من مفاعل اليورانيوم ومفاعل البلوتونيوم النوويين.
وفي عام 2002، أوقف الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش سيل المساعدات بعدما علم أن بيونغ يانغ كانت تعمل خلسة على تخصيب اليورانيوم. وبعد ذلك انسحب كيم من الاتفاقية وكذلك من معاهدة “منع الانتشار النووي” وأعاد تشغيل مفاعل البلوتونيوم.
وعلى الرغم من هذا التاريخ، وقع بوش اتفاقا خاصا مع كوريا الشمالية في عام 2007، سمح بمقتضاه لكوريا الشمالية باستخدام نظام الدولار، وأمدها بالمزيد من المساعدات، وخفف من العقوبات المفروضة عليها، كما عزلها عن قائمة الدول الراعية للإرهاب. وفي غضون عام، رفضت بيونغ يانغ التوقيع على بروتوكول الاتفاق، وانهارت الصفقة تزامنا مع مغادرة بوش لمكتبه.
وفور تولي الرئيس السابق باراك أوباما لمنصبه، وعد بمد يد العون إلى كوريا الشمالية إذا ساعده كيم على ذلك وأرخى قبضته بعض الشيء. وفي غضون أشهر، أجاب كيم على هذا الطلب بإجراء اختبار أول صاروخ بعيد المدى ثم جهاز نووي من بعده.
كوريا الشمالية تحدت الولايات المتحدة منذ إجرائها اختبارين نوويين العام الماضي، وإطلاق صاروخين عابرين للقارات
ومع ذلك، تمسك أوباما بموقفه من أجل فتح باب التواصل بينه وبين بيونغ يانغ. وبموجب في ما يُعرف “باتفاق السنة الكبيسة” الذي عُقد عام 2012، وعدت الولايات المتحدة بمساعدة كوريا الشمالية مقابل تجميد تجاربها النووية والصاروخية. وبعد ستة أسابيع فقط من التصديق على الاتفاقية، أجرت بيونغ يانغ اختبارا لصاروخ بعيد المدى.
نخلص من كل التجارب السابقة إلى الدرس المستفاد، فثمة توقيع ورقة أخرى لن يحل الخلافات القائمة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. فرغم كلّ ذلك، انسحبت بيونغ يانغ دون سابق إنذار بعد توقيع اتفاقيتي ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومعاهدة “منع الانتشار النووي” ونقضت اتفاقا لإزالة الأسلحة النووية من الكوريتين، و”إطار الاتفاق” لعام 1994، وبيان عام 2005 المشترك، واتفاقيتي عامي 2007 و2012.
المال مقابل لا شيء
وفي الوقت الذي كانت تعقد فيه الولايات المتحدة المفاوضات والاتفاقيات مع بيونغ يانغ، اعتمدت سيول سياسة المعونة الاقتصادية والاستثمار التي أمدت بها كوريا الشمالية، بهدف إشراكها في الاقتصاد العالمي، وتشجيع الرأسمالية، وتحرير نظامها بالتدريج.
وبين عامي 1991 و2015، أودعت سيول ما لا يقل عن 7 بلايين دولار في خزائن بيونغ يانغ، وكذلك ساهمت الولايات المتحدة بمبلغ إضافي قدره 1.3 بليون دولار في شكل معونات، وأيضا كل من الصين وكوريا الجنوبية وأوروبا بعدد مليارات أخرى.
ويذكر أن ذروة السياسة الخارجية التي اتبعتها كوريا الجنوبية مع الشمالية في ما تُعرف باسم “سياسة الشمس المشرقة” استمرت من عام 1998 حتى عام 2008 في فترتي رئاسة كل من كيم داي جونغ وروه مو هيون. وجاءت المساعدات المالية التي ضمنتها “سياسة الشمس المشرقة” لكيم في الوقت المناسب لإنقاذه من الأزمة الاقتصادية التي حلت ببلاده والتي أدت إلى حدوث حالة تمرد كبيرة داخل الجيش الكوري الشمالي.
وأصبح فشل محاولات الشراكة الاقتصادية أمرا حتميا لا يختلف كثيرا في مضمونه عن فشل معاهدة “إطار الاتفاق”. فمن الواضح أن فرضية الرأسمالية من شأنها أن تشجع على ظهور الليبرالية في دولة استبدادية كهذه كانت تشوبها بعض العيوب. وعلى مدى العقدين الماضيين، وعلى الرغم من تقبل الصين وروسيا لفكرة الرأسمالية، إلا أن الدولتين قامتا بقمع قوى المعارضة الداخلية وتهديد الولايات المتحدة وحلفائها في الخارج.
وفي عام 2003، حتى عندما صرفت بيونغ يانغ شيكات سيول، حذرت بيونغ يانغ مسؤولي الحزب في صحيفة الدولة من أن “ما يحدث ما هو إلا خدعة قديمة لا طالما مارسها الإمبراليون من خلال تسلل أيديولوجياتهم وثقافتهم فقط قبل إعلان العدوان والتسلطية”.
ومن وجهة نظر النظام الكوري الشمالي، لم تكن تلك الشراكة الاقتصادية إلا حيلة كريهة وشريرة للعدوان سعيا وراء التدخل والسيطرة.
وبالنظر إلى هذا الموقف، فإنه ليس من الغريب أن يظهر الموقف المقاوم لكيم جونغ إيل ضد انفتاح كوريا الشمالية لما يخشاه من التغيير السياسي الذي يمكن أن يحل باتباع سياسية الشراكة الاقتصادية تلك.
وعلى الرغم من ذلك سمحت كوريا الشمالية بإنشاء بعض المؤسسات الرأسمالية التي فرضت عليها بعض الغرامات المالية، ولكن بعد عزلها بالكامل عن المجتمع الكوري الشمالي الاشتراكي.
فعلى سبيل المثال يدفع السائحون الكوريون الجنوبيون منذ عام 2002 أسعارا مبالغا فيها للقيام بنزهة سياحية سيرا على الأقدام على طول مسار كومغانغ الجبلي الخلاب، الخاضع للمراقبة والإشراف المباشر، والمنعزل في الركن الجنوبي الشرقي لكوريا الشمالية.
كيم جونغ أون خاطر بشرعيته من أجل إتمام بناء الترسانة النووية وسيستمر في ذلك حتى لو كان الثمن هو تهديد بقاء نظامه
ولكن توقفت تلك الرحلات في العام 2008 عندما أطلق جندي كوري شمالي الرصاص على سيدة كورية جنوبية وأودى بحياتها عندما بدأت رحلة السير على الممشى من دون استخراج تصريح بذلك. وابتداء من عام 2004، وظّفت الشركات الكورية الجنوبية الآلاف من العمال الكوريين الشماليين في “مجمع كايسونغ الصناعي”الذي يبعد 10 كم عن المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين. وبحلول عام 2015، وصل عدد العاملين “بمجمع كايسونغ الصناعي” إلى أكثر من 54 ألف كوري شمالي، والذين كان يسرق منهم النظام معظم أجورهم المنخفضة.
وفي عام 2016، وبعد الاختبار النووي الرابع الذي أجرته كوريا الشمالية، صرحت حكومة كوريا الجنوبية بأنها تملك بيانات حول استخدام عائدات المجمع في تطوير الأسلحة النووية وتقنيات الصواريخ في كوريا الشمالية، وكنتيجة لذلك أصدرت الحكومة الجنوبية قرارا بوقف كامل العمل في المجمع.
ولكن دعا بعدها المرشح البارز في الانتخابات الرئاسية لكوريا الجنوبية هذا العام، مون غاي إن، إلى إعادة فتح المجمع وتوسيعه بعد قرار مجلس الأمن الدولي، الذي صدر في عام 2016، بحظر أي دعم مالي عام أو خاص للتجارة مع كوريا الشمالية والذي أبقى المجمع الصناعي واقفا على قدميه، دون الحصول على موافقة من لجنة تابعة للأمم المتحدة.
لم تستطع الشراكة الاقتصادية أن تغير من بيونغ يانغ، لكنها غالبا ما شجعت على الفساد. وبأخذ قضية وكالة الأنباء “أسوشيتد برس” كمثال، عزمت الوكالة على فتح مكتب جديد لها في بيونغ يانغ عام 2012، واعدة باتباع السياسة العامة لمكاتب “أسوشيتد برس” في جميع أنحاء العالم وهي توجيه الطريق نحو فهم أوسع مع اتباع نفس المعايير والممارسات التي تتبعها جميع الأفرع الأخرى حول العالم ليعكس بدقة ما يحدث في حياة الشعب الكوري الشمالي. ومع ذلك، تنازل المكتب عن تلك الوعود بعد خضوعه للرقابة والبدء بنشر الدعايات حول النظام والحكومة للعالم في الوقت الذي أهمل فيه بث الأخبار الحقيقية، كانهيار شقة أو اندلاع حريق في الفندق الذي يبعد دقائق فقط عن المكتب.
عقد جميع رؤساء الولايات المتحدة، بدءا من بيل كلينتون، الآمال على انهيار النظام الكوري الشمالي، بينما لم يفعل أي منهم شيئا لتقويضه
وتأسست جامعة بيونغ يانغ للعلوم والتكنولوجيا من قبل مبشرين مسيحيين في عام 2010، لمساعدة كوريا الشمالية على إثبات وجودها كعضو مساهم في المجتمع الدولي، طبقا لما ذُكر على لسان المؤسسين. ولكن المنشقين زعموا أن النظام يستخدم الجامعة لتدريب قراصنة التكنولوجيا والكمبيوتر. وفرض النظام على العاملين في مجال الإعانات والمساعدات التعاون مع نظام الحكومة التمييزي، لتجنب الطرد أو السجن، والذي يفضل المواطنين الذين يدينون بالولاء للدولة.
ومنذ وفاة والده، حرص كيم جونغ أون على الإسراع بوتيرة العمل في التجارب النووية والصاروخية في كوريا الشمالية، متجاهلا تماما وسائل الإعلام الأجنبية، وشدد من إحكام قبضته على حدود الدولة المُغلقة بالفعل. وعمل أيضا على توسيع معسكرات الاعتقال وشن عمليات تطهير دموية، ويزعم أيضا أنه أرسل فريقا من القتلة لاغتيال شقيقه في أحد المطارات الماليزية في وقت سابق من هذا العام.
أما أعضاء الحزب الحاكم في بيونغ يانغ، فقد أصبحوا أكثر ثراء مما كانوا عليه قبل عشر سنوات، ولكنهم عاشوا بقلق حين يحيدون يوما عن مصلحة النظام، وكنتيجة لذلك انشق العديد منهم عن الحزب. وعلى الرغم من أن المجاعة التي انتشرت في كوريا الشمالية في التسعينات لم تفتك بالشعب، إلا أن معظم الكوريين الشماليين يشقون طريقهم بشق الأنفس ويكافحون معا من أجل العيش.
لقد طرأت الكثير من التغيرات على المجتمع الكوري على مدار العقدين الماضيين. حيث نشأت الأسواق التي توفرالآن للناس معظم احتياجاتهم من الطعام والسلع الاستهلاكية والمعلومات. ومع ذلك، ووفقا لما وثّقه عالما الاقتصاد ماركوس نولاند وستيفان هاغارد، حدثت هذه التغيرات على الرغم من الجهود المبذولة من قبل الحكومة لمنعها.
وتُدار هذه الأسواق من قبل أشد الناس فقرا وتهميشا، ممن اتجهوا إلى مجال التهريب لكسب لقمة العيش، وغالبا ما عرضوا حياتهم لخطر الموت أو قضاء بقية حياتهم في معسكرات السجون. لذلك ينبغي أن تولي الولايات المتحدة وحلفاؤها التركيز على هذا التغيير الحقيقي الذي يحدث، وليس على مجرد التوسط لعقد صفقة أخرى مع النظام الكوري والتي من شأنها أن تحافظ على الوضع الراهن دون حراك.
صحيفة العرب اللندنية