كل من بقي يُعمِل تفكيره في الشأن السوري وكأن هذا الشأن ما زال على بقائه ضمن الحقل الاصطلاحي الذي أعطى لمسارات الصراع مسمياتها المعروفة منذ ربيع ٢٠١١، بات من دون شك يفكر خارج الراهن التاريخي. إذ إن قطعاً باتّاً وقع على مسار هذا الصراع خُتمت بواسطته المسارات السابقة، وبدأت مرحلة جديدة وإن لم تتبدّ ملامحها بوضوح لجميع الناظرين. هذا مع أن هذه المرحلة تسير حاثة الخطى في إعادة تشكيل الواقع العسكري والأمني والسياسي وفق معطيات ومقومات تضعها الأطراف الدولية المنتصرة في الحرب السورية.
فما يتم الآن يبدو قليل الأهمية الاستراتيجية إلا أنه سيحدد مسارات الصراع القادم: أطرافه، آفاقه، ميادينه، غاياته، وغير ذلك من مقومات ضابطة له.
لقد تأسس لهذا القطع في الانتصار الروسي الإيراني (حزب الله ضمناً) في معركة حلب، حيث كان انتصاراً نوعياً، ولم يكن بتاتاً مجرد انتصار في معركة جغرافية. لكن الأمر احتاج للقمة التي جمعت الرئيسين الأميركي ترامب، والروسي بوتين، في 7 آب (أغسطس) الماضي في هامبورغ، لتصقل هذا القطع وتجعل نصله حادّاً لا يبقي أثراً بين مرحلة انقضت وأخرى بدأت، وذلك بما أظهره ترامب من أن الولايات المتحدة فارغة الرأس من أي أجندة أو مقترح، وستبقى على تخبطاتها «الصغيرة» في الوضع السوري. ولا ينتظرنّ أحد أن تقوم واشنطن بأي فعل يغير المآلات التي بات واضحاً أنها تصب جميعها في الحضن الروسي. وأنها ستبقى محتفظة بمقعدها بصيغته الشَرَفية على الطاولة السورية التي يرعاه لها الطرف الروسي لأن ذلك يمكّنه من تحييد خصومه الأوروبيين عن هذه الطاولة.
إذاً، من هنا وصاعداً يتوجب علينا عند الحديث عن هذا الصراع أن نتحدث عنه باستخدام صياغات وتعابير تفيد بأنه مضى، كأن نقول «ذاك» الصراع، أو «الصراع السابق»، أو أي تعبير يشير إلى أنه بات مجرد مادة تاريخية تتقبل الدرس واستخلاص العِبَر تحت عنوان «تجربة الصراع العنفي السوري»، ليستفاد منها في تجارب لاحقة قد تحصل في غير بقعة من المعمورة.
ذاك الصراع بلغ الختام بعدما وصل منتصروه إلى خط النهاية، وتساقط مهزوموه على أطراف مضماره. فالمنتصر بات واضحاً والمهزوم بيّناً. ولا أعتقد أنه كان مفاجئاً للبعض ألا يرى أي طرف سوري عند خط النهاية. فقد كان واضحاً للجميع أن الشعب السوري مجرد رصْف مسارات الصراع وميادينه، وأن مصير الأطراف السورية مكبّ الخُسران. أما الرهان فعلى اسم الدول المنتصرة: أهي أميركا وحلفاؤها أم روسيا وإيران؟
من ناحية أخرى، فبعض السذاجة أو كثيرها اعتبار أن النظام هو المنتصر، أما حلفاؤه فمجرد مستفيدين من نصره هذا. لكن صلافة الواقع تقول إن النظام سلّم مفاتيح قلعته لموسكو وطهران، وبات لا يملك سوى الفتات الإعلامي الذي يتركونه له على أن يقول ما يريدونه. فالنظام هو الخاسرون الكبار وبالمطلق، فقد بات مكبّل العقبين والمعصمين من حلفائه، وبات فاقد القدرة على فعل أي شيء، بما في ذلك التململ وعدم الرضا على ما يفعله أو يقوله الحلفاء. أما المعارضة فوضعها أكثر قرفاً بعدما اندثرت كلياً، وما عدنا نسمع منها إلا أصوات فقاقيع غرقها في قعر دلو الماء.
مع انتهاء الصراع الوجودي، الذي بدأ بعد أشهر قليلة جداً من انطلاق التظاهرات في آذار (مارس) ٢٠١١، توجد الآن فرصة طيبة لإعادة الصراع إلى مستوى الرشد، إلى المستوى اللاعنفي. فإن كان ممكناً للنظام والمعارضة الاستفادة من تلك التجربة، والتحول إلى طرفين وطنيين يعتبران مصلحة الوطن فوق جميع المصالح، فعليهما الاتفاق على قواعد صراع سياسي لا عنفي. وهذا يتطلب مبادرة طليعية من المعارضة بعد قيامها بعملية فرز ذاتية. فتجمع من بين مكوناتها القوى والشخصيات المستعدة للمشاركة بعملية سياسية بالتشارك مع النظام السوري وعلى رأسه بشار الأسد مصحوباً بصلاحيات محدودة ومضبوطة لا تكفي لأن يكون ديكتاتورياً. فضلاً عن القبول بتوزيع النفوذ الوطني بين روسيا وأميركا وإيران وتركيا. لأن كل من يرفض العمل بهذه الظروف سيجد نفسه على الهامش بين «الخرابيش».
حال النظام لا يختلف هنا عن حال المعارضة إذ لم يبق منه سوى المسمّى، فقد سقطت عنه الفاعلية، لدرجة أنه ما عاد يمكن اعتماده في المصالحات المناطقية الجزئية في الأحياء والبلدات، فجميعها تجري عبر روسيا وإيران (حزب الله ضمناً).
ما لدينا الآن بلد خَرِب، بلد مَوات، لا حياة فيه ولا عُمران. نظامه متهالك، مكبَّل، مُثخن بالجراح. إنسانه محطم الشخصية والهوية. أديانه أيديولوجيات عدوانية. أقوامه متنابذة. لا اجتماع فيه ولا اقتصاد، كل ما فيه سكان متجاورون لا رابط بينهم سوى الخوف. والمال في الأسواق هو الفائض من المنح الدولية المقدمة لاستمرار التحارب.
إن كل ما كنّا فيه بات من عصر غابر لم تعد لنا حاجة به. فنحن الآن بمرحلة جديدة تختلف في جميع مقوماتها عن سابقتها، فلا يوجد بينهما أي رابط استمراري، فالقطع وحده هو التَخْم بينهما. إنه عبارة عن هوّة لا مجال لعبورها أو القفز عنها.
إذاً، لم يعد هذا الصراع «حيّاً يرزق»، بل تقطّعت فيه سبل الرزق. مات أهله، وانفضّ عنه محبوه ومشجعوه، خاب أملهم فيه بعدما تعشموا فيه خيراً قبل أن يعرفوا أن لا خير يرجى من العنف. تأكدوا الآن أن الصراع المسلح محكوم بالفشل، بغض النظر عن وجهات النظر المتعددة في أسباب فشله. والجميع الآن ينتظر معرفة ماذا ستكون عليه الحال بعد ذلك. فالإجابات قليلة، والطروحات شحيحة، والتصورات متداخلة. ما هو مؤكد أن كامل المنظومة الاصطلاحية التي حكمت ذاك الصراع انتهت صلاحية عملها وفاعليتها، مفهومياً وإجرائياً وعلى صعيد مواقف الدول من بعضها، أو من الأطراف المحلية.
فشعار إسقاط النظام بالعنف، مثلاً، كان بمثابة مقولة محدِّدة لنهج وفهم سياسي، ومشكِّلة لحركات جهادية اعتُبرت زوراً وبهتاناً على أنها «الثورة السورية»، وكأن السوريين ليسوا قادرين على القيام بثورة تليق بهم وبالإنسانية غير هذه «الهوجة» التي تشاركت مع النظام بتدمير البنية السورية، التحتية منها والاجتماعية والفكرية والأخلاقية والدينية والسياسية، أو حتى البنى الفردية النفسانية. وفضلاً عن ذلك حددت هذه المقولة مواقف ونهج عدد من الدول التي أرادت رؤية سقوط النظام وفق الطريقة الليبية. فهذا الشعار «انشقت الأرض وبلعته»، وبات في غياهب التاريخ، بعدما استطاع تغطية «عين الشمس» بغربال.
الساحة السياسية السورية خالية الوفاض الآن من المصطلحات والشعارات، بل من الأهداف والرؤى. لكن يوجد اختراق في هذا الخلو. فبعض منا ما زال يحمل روحاً تواقة للحرية، لا تهتم بنتائج المعارك العسكرية، ولا يهمها من المنتصر ومن المهزوم، فكلاهما بالنسبة إليها عدو للحرية الفردية. كل ما يهمها صمت المدافع لتعود وترفع صوتها مجدداً تنادي بالحق المطلق للأفراد بأن يكونوا أحراراً لا يحق لأي جهة أن تعتدي على حريتهم. هذه الأصوات تريد العودة إلى ما كانت عليه في بدايات التظاهرات الخلاقة في ذاك الربيع الزاهر. تريد العودة لرفع صوتها بما قالته في مؤتمر سميراميس (حزيران / يونيو ٢٠١١): إن عليها إنهاء النظام الاستبدادي بطرق سلمية للانتقال إلى الدولة المنشودة، دولة الحرية والعدالة والمساواة، التي لا تمييز فيها ولا أفضلية لفرد على آخر بسبب الدين أو الطائفة أو الجنس أو العرق أو الثقافة.
يتحتم علينا الآن أن نبدأ ثورتنا الحقيقية، على الاستبداد والتخلف والطغيانات، ثورتنا إلى الحداثة، حيث يكون الإنسان السوري فيها غاية بحد ذاته، ويكون فيها هو «الأولَ» قبل الوطن والسياسة والدين والأخلاق، وقيمة مستقلة تُشتق منها القيم الأخرى. ثورة نبنيها خطوة خطوة (وهذا غير المكاسب التدريجية)، نقيمها على أسس مفهومية صحيحة، وليس على «هوبرات» غوغائية، وعلى الأرض السورية حيث النظام يطغى على شعبه، وليس في الشتات.
وهذا ليس كلاماً إنشائياً بل مداميك صلبة تبنى عليها الدول التي تريد لنفسها ألا تكون ورقة في مهب الرياح، بل علامة فارقة بين الدول، لكن ليس بغلو استبدادها، ولا بغلو القتل باسم جهاد أفُلت حيثياته، بل لأن إنسانها حرّ كريم لا يطاوله الغبن ولا الضيم.
أن نفعل ذلك بوجود النظام أمر ليس يسيراً البتة، بل هو في غاية التعقيد والمخاطرة. لكنه ليس أعقد ولا أصعب من اختراع أبجدية، وقد اخترعنا نحن السوريين مثل هذه الأبجدية قبل أن نصبح مسلمين وقبل أن نصبح عرباً، اخترعناها عندما كنا سوريين. لهذا فإني أجزم بأنه إن عقدت نخبنا العزم على صناعة تاريخ جديد للأمة، وهذه مهمتهم، فهم قادرون على إعادة مواطنيهم النازحين واللاجئين إلى الوطن، وعلى صوغ النصوص الكفيلة بإقرار الحرية الفردية، حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، وعلى الضغط المثمر لإقامة سلطة قضائية مستقلة عن أيدي الاستخبارات يمكنها حماية الحريات والحقوق وصونها.
إن النخب السورية قادرة على فعل الكثير في ظل هذا الخراب والفقدان للسيادة. فهي قادرة على قيادة الأمة لصناعة تاريخ حديث لائق بالسوريين، وعدم ترك الأمر للعموم أو الرعاع تقود الصراع كما كان الحال طيلة السنوات الست الماضية.
كلي أمل بأن تنهض النخب السورية بمهماتها التاريخية وتبدأ ثورة السوريين التاريخية، ثورة الحداثة، وليس مجرد انقلاب مبتذل على النظام. أدرك أن ثورة سورية حقيقية أمر معقد ولكنها أبسط من اختراع أبجدية.
لؤي حسين
صحيفة الحياة اللندنية