نكتشف متأخرين، أن مسافة هائلة تفصل الإحساس عن السياسة، ليس فقط في الحالة السورية، إنما أيضاً في السياسات العالمية تجاهنا.
الإحساس، وأكثر ما يطلبه إحساس السوري المقهور اليوم، هو: وقف القتل، وقف الاعتقالات والخطف، وقف الجوع والتجويع، وقف حرق الجثث.
طالبَ السوريون بأن تحسّ بهم سلطتهم، وذلك قبل الثورة، طالبوا برصيف للمشاة، وجامعة ومستشفى نظيف، وبعض كرامة تليق بالبشر.
الآن السوري بكل ما يحمل من تعقيدات واحتلالات، يبدو فيه سؤال الإحساس أبعد ما يكون من مخيلات السياسيين القادرين على العمل والتدخل، لا سيما في هذا الزمن الترامبي الذي يشبه تماماً صراخ ترامب الإعلامي والإعلاني.
سيقول السوري المحاصر في مناطق النظام بالحواجز والخوف والجوع، والمحاصر من جانب جبهة النصرة و «داعش»: أما آن لهذا العالم أن يحسّ بنا؟ وفي الجواب عن هذا السؤال تبدو السياسات كأنها قهر عام لشعب بكامله، السياسة التي تجعل مصير بلدان عدة في هذا الشرق محصورة بأسوأ نظامين عرفهما العصر الحديث، هما الإيراني والروسي.
وحدها تقارير المنظمات الدولية بقيت تحسّ بالبشر ولو على الورق، توثق، (يا لهول اللغة وبرودتها أمام المقهورين)، ولكن ماذا يمكن أن تفعل أطنان الوثائق إذا غاب القرار الدولي السياسي، أو غيّب عمداً؟
مساحة هائلة من الدموع والقهر والحزن، مساحة هائلة من البكاء والفقد والعذاب والانتظار والجوع، عاشها ويعيشها حتى اللحظة السوريون، وحين يتفقدون ما يمكن أن يحدث لا يجدون أمامهم سوى ضحكة بشار الأسد، نعم ضحكة بشار الأسد التي بدأت منذ مجلس نوابه في خطابه الأول بعد بداية الثورة ولم تنته بعد.
كل العالم معلق ومتعلق بالولايات المتحدة وما يمكن أن تفعله، وها هي تعمل في سورية ولكن حسب مزاجها ومصالحها، مصالحها التي لا تقتضي تحركاً سريعاً لإنها المأساة، كما فعلت بعد احتلال صدام حسين الكويت عام 1990.
يقرأ السوري الآن لحظات موازية لمأساته في التاريخ، تقول لي صديقة ألمانية رداً على بعض شرحي عن مأساة سورية: «ونحن أيضاً دمرت بلادنا في الحرب العالمية الثانية وعشنا بلا كهرباء ولا ماء».
أحاول شرح خصوصية المأساة السورية لها، لا تسعفني مقدراتي في اللغة الألمانية على التعبير، تسبقها دموعي، ثم أصمت، تردّ علي: نحن نحسّ بكم.
وأنا أقرأ الكثير من الآراء والتحليلات السياسية المحقة والصحيحة حول الحالة السورية يأتيني سؤال الإحساس الذي ينتمي إلى الأخلاق، الأخلاق التي يمكن أن تجعل بشار الأسد الآن يضحك كممثل كوميدي.
أشعر بعجز اللغة عن التعبير، فماذا يمكن أن تفعل في التعبير أمام هول المأساة؟
إحساسي الشخصي يجعلني أقرأ من موقع المخنوق بدموعه، يجعلني أشتم كل الدول التي تساهم في استمرار المأساة.
الرسالة السياسية من الروس والإيرانيين ومعهم الأميركان لكل شعوب المنطقة تقول: اقبلوا بأوضاعكم الحالية وإلا ستعيشون القهر الذي يعيشه السوري الآن.
على الأرض السورية سياسياً لا شيء يدعو إلى التفاؤل، ولكن من موقع الإحساس، الإحساس بحجم المأساة وهولها، أرى أن المستقبل السياسي لسورية لا يمكن أن يبقى بكل هذا السواد والسوء.
بالتأكيد، اللحظة السورية لا يمكن أن تبنى سياسياً بكتابة الشعر والروايات، ولكن من موقع الإحساس أشعر بأن العامل الذاتي السوري يمكنه أن يفعل الكثير على كل الصعد المتعلقة بالمستقبل، بالتأكيد ثمة كلام حالم هنا، نعم حالم، ولكن كل التغييرات العميقة والحقيقية في حياة البشر حملها حلمُ بعض الأشخاص الحالمين بالتغيير.
مصطفى علوش
صحيفة الحياة اللندنية