إلى جانب تغريداته الغريبة على تويتر، يُشكل الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحدياً حقيقياً لأوروبا، ولكن هذا التحدي لا يمكن تحديده دائماً بسهولة، حيث يوجد فرق بين ما يقول ترامب، وما تفعله إدارته، وما يقول له الكونغرس أن يفعل. وفي الأيام الأخيرة لم يُمنح ترامب أي خيار سوى التوقيع على مشروع قانون يفرض عقوبات جديدة على روسيا، والذي كان قد عارضه بشدة.
بالإضافة إلى ذلك، تختلف قدرة الاتحاد الأوروبي على العمل الجماعي من قضية إلى أخرى. ويمكن لأوروبا أن تتحد معاً بشأن قضايا الطاقة الناعمة مثل التجارة والمناخ؛ ولكن أمنها ودفاعها يعتمدان إلى حد كبير على العلاقة الفرنسية الألمانية، التي لم تكن أبداً أكثر أهمية مما هي عليه اليوم.
فور تسلمه منصبه، أطلق ترامب هجوماً قوياً على التجارة متعددة الأطراف، فتخلى عن الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تضم 12 دولة، وانسحبت الولايات المتحدة من المفاوضات حول الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي (تيب) مع الاتحاد الأوروبي، التي كانت ستنشئ سوقاً كبيرة في شمال الأطلسي. وهذا يضع الاتحاد الأوروبي في حالة ترقب، لأنه أكثر اعتماداً من الولايات المتحدة على التجارة، وخاصة على هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، والتي قد تحاول إدارة ترامب تجاوزها.
ربما بسبب جدول أعمال ترامب لمكافحة التجارة، أبرم الاتحاد الأوروبي مؤخراً اتفاقاً تجارياً جديداً مع اليابان بشكل أسرع بكثير مما توقعه الكثيرون؛ وأظهر استعداده للانتقام إذا سنت الولايات المتحدة تدابير لحماية صناعة الصلب المحلية.
ويبدو أن ترامب قد تخلى عن مقترحات سابقة بشأن ضريبة تعديل الحدود، ومن المرجح أن لا ينفذ كل خطابه الحمائي. ولكن، حتى في ظل أسوأ السيناريوهات، ستظل أوروبا في حالة من عدم اليقين العميق. وعلى كل حال، لا يعرف صناع السياسة في الاتحاد الأوروبي ما إذا كان ينبغي عليهم وضع الثقة في الخطاب الساخن لترامب ومستشاره التجاري بيتر نافارو، أو في الكلمات الأكثر اعتدالاً لغاري كوهن، المدير التنفيذي السابق لجولدمان ساكس الذي يقود الآن مجلس الاقتصاد الوطني الأميركي.
مع ترامب الذي يُلح على قضايا ثانوية مثل التعريفات والعجز، سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة وأوروبا وضع معايير تجارية عالمية جديدة. ولكن الاتحاد الأوروبي ما يزال يمتلك الأوراق التي يمكن استعمالها في قضايا أخرى، مثل تغير المناخ. وفي البداية، سوف يستمر في قيادة بقية مجموعة العشرين في تنفيذ اتفاق باريس للمناخ ، والآن بعد أن سحب ترامب الولايات المتحدة من ذلك الاتفاق، يمكن للاتحاد الأوروبي التعاون مع العديد من المدن والولايات الأميركية، ومنظمات المجتمع المدني التي ما تزال ملتزمة بمكافحة تغير المناخ.
ويمكن للاتحاد الأوروبي أيضاً أن يصبح قائداً عالمياً للطاقة المتجددة. لكنه سيحتاج لكي ينجح إلى دمج سوق الطاقة الأوروبية من خلال تنسيق السياسات على المستوى الوطني. ومن دون استراتيجية مشتركة لتسعير الكربون، لن يصل الاتحاد الأوروبي إلى هدفه المتمثل في الصفر الصافي للانبعاثات بحلول العام 2050.
على الجبهة الأمنية، ليست الأمور واضحة، خاصة بالنظر إلى الفجوات الكبيرة بين خطاب إدارة ترامب والحقائق على الأرض. وعلى سبيل المثال، في حين أعرب ترامب عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه لم يُلغ قرار سلفه باراك أوباما بنشر القوات الأميركية في بولندا ودول البلطيق تحت رعاية الناتو. والآن بعد أن تدخل الكونغرس الأميركي، لم يعد بإمكان ترامب رفع العقوبات عن روسيا من جانب واحد. وعلاوة على ذلك، يبدو أن وزارة الخارجية الأميركية تريد إعادة الاندماج مع أوكرانيا، حتى لو كان ذلك يعني التحايل على بعض أعضاء “اتفاق نورماندي”، أي فرنسا وألمانيا.
لسوء الحظ، يُثير عدم وجود سياسة أميركية منسجمة بشأن روسيا أو أوروبا شكوكاً جديدة. وعلى سبيل المثال، يشعر الكثيرون في ألمانيا بالقلق بشأن العقوبات الأميركية التي تستهدف قطاع الطاقة الروسي، والتي يمكن أن تؤثر على نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب يتجاوز أوكرانيا لتوصيل الغاز الطبيعي مباشرة من روسيا إلى ألمانيا. وفي الوقت نفسه، رحبت بولندا بالعقوبات الجديدة، وهي التي كانت حذرة منذ وقت طويل من المحاولات الروسية لتشكيل تحالف للطاقة مع ألمانيا.
يشير كل هذا إلى خطر متزايد: بدلاً من التوقيع على موقف أوروبي مشترك إزاء الولايات المتحدة، يمكن للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تقرر سياستها بمفردها. وسيكون قرارها رهين قوة التحالف الفرنسي الألماني الذي كان منذ فترة طويلة محركاً للتكامل الأوروبي.
لدى فرنسا سبب أقل من ألمانيا للقلق بشأن فك الارتباط الأميركي. وبسبب تعثر الحكومتين الأميركية والبريطانية ووجودهما في حالة من الفوضى، ستصبح فرنسا، العضو الدائم فى مجلس الأمن الدولى، أكثر تأثيراً من الناحية الدبلوماسية في أفريقيا والشرق الأوسط. ولم ينس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن أوباما هدد فرنسا في العام 2013 بتخليه من جانب واحد عن “الخط الأحمر” ضد استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية. وبناء على ذلك، احتفظ ماكرون بحق التدخل في سورية إذا استخدم نظام بشار الأسد الأسلحة الكيميائية مرة أخرى.
يبدو الوضع الجيو-استراتيجي الألماني أكثر هشاشة، على الرغم من مكانة ألمانيا القوية اقتصادياً. وتُعد الركائز المزدوجة للأمن الألماني ضمان الدفاع الجماعي لحلف الناتو وضمان علاقات مستقرة مع روسيا. والآن، أصبح كلاهما في خطر، كما هو حال علاقة ألمانيا مع الحكومة البولندية غير الليبرالية بشكل متزايد.
يجب على ألمانيا أن تقبل أخيراً فكرة الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي، الذي تشجعه فرنسا علناً. وبطبيعة الحال، يجب أن يتطور الحكم الذاتي الاستراتيجي، الذي كان منذ فترة طويلة من المحرمات في ألمانيا، بشكل تدريجي من خلال البرامج العسكرية الفرنسية الألمانية المشتركة.
وهكذا قررت الحكومتان الفرنسية والألمانية مؤخراً المضي قدماً في خطة مشتركة لتطوير طائرة مقاتلة جديدة، وهى بالتأكيد خطوة أولى جيدة. ولكن لا ينبغي أن يتوقع المرء إنجازات مشتركة مذهلة في المستقبل القريب. وفي العام 2018، سوف تحتاج ألمانيا إلى تحديث طائراتها المقاتلة للسنوات السبع المقبلة. فهل ستشتري طائرات رافال الفرنسية، باسم التضامن الأوروبي؛ أم أنها ستختار المقاتلات الأميركية (ف-35) من كفيل أمنها التقليدي؟
لقد خلق ترامب بدون قصد فرصاً حقيقية لأوروبا، التي تدرك ببطء أنها لم تعد مستعدة لوضع الثقة في الولايات المتحدة بلا قيد أو شرط. ولكن لكي يقف الأوروبيون بشكل فعال لمواجهة تهديد مشترك، سيتعين على الأوروبيين أولاً التغلب على مشاعرهم القومية -وعلى الألمان التخلص من مشاعرهم المناهضة للتسلح.
زكي العايدي
صحيفة الغد