ردُّ الحقوق لا يعنى تجزأة الأوطان

ردُّ الحقوق لا يعنى تجزأة الأوطان

أن تكون هناك مطالب حقوقية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية تتعلق باللغة أو المذهب الدينى أو غيرهم لبعض مكونات المجتمعات العربية فهذا أمر لا يختلف عليه اثنان.
وبالطبع فمن حق تلك المكونات أن تناضل من أجل تعديل أى خلل فى تلك الحقوق، ومن الواجب الأخلاقى والوطنى على جميع أفراد شعوب تلك المجتمعات أن تساند تلك المطالب وتناضل جنبا إلى جنب مع مواطنيهم المهضومى الحقوق.
وجود التمييز ضد هذه الجماعة أو تلك فى المجتمعات العربية هو ظاهرة اجتماعية مبتذلة تواجدت عبر كل تاريخ تلك المجتمعات. وبالتالى فتصحيحها، بل واجتثاثها، أصبح ضرورة تستوجبها القيم الأخلاقية ومتطلبات الممارسة الديموقراطية.
إلى هنا والأمر لا اختلاف عليه. لكن تصحيح تلك الأوضاع، كمسئولية جماعية، شيء والحديث عن تجزئة الأوطان، بانسلاخ هذا الجزء أو ذاك، وبالتالى إضعاف الأوطان وتشويهها وإدخالها فى صراعات مستقبلية لا تنتهى، هو شىء آخر. فالأوطان ليست سلع فى الأسواق معروضة للبيع والشراء، وإنما هى مشاعر أمان وهويات وأحلام عبر أفق المستقبل وضمانات فى وجه الأخطار الآتية من كل طامع أو حاقد.
وبالتالى فإن يتنطع هذا الزعيم أو ذاك، فى هذا المكون أو ذاك، لهذه الأسباب المحقة أو تلك، ويطالب بإجراء استفتاء حول انفصال جغرافى وبشرى، وبالتالى سياسى واقتصادى، يؤدُّى إلى إضعاف وتمزيق وتشويه الوطن ودخوله فى متاهات تقسيم هذه الثروة المادية أو المعنوية أو تلك، فانه تنطُّع غير مقبول بصفة مبدأية، ولكنه أيضا غير مقبول بصفة واقعية. ذلك أن كل جزء من الوطن الجغرافى، بل كل حبة تراب فيه، هى ملك الجميع، وليست ملكا لهذه الجماعة أو تلك. من هنا فإن قرار سلخ أو انفصال هذا الجزء الجغرافى أو ذاك، هو ملك للجميع وليس لهذه الجماعة أو تلك.
***
إذا كان لابد من استفتاء فإن الواجب الوطنى وواقع الحياة السياسية يقتضيان بأن يطرح الاستفتاء على جميع أفراد الوطن، فإذا وافقت أغلبية ساحقة، بمعنى نسبة تسعين فى المائة فما فوق على انسلاخ جزء من وطنها، فإنه قرار شرعى حتى ولو كان قفزة فى المجهول ومخاطرة غير محسوبة.
القرار إذن يجب أن يكون وطنيا يشترك فى اتخاذه الجميع، وليس قرارا فئويا وإلا فإننا نتكلم عن تدمير لمفهوم الدولة وشروط وجودها فى الواقع السياسى والجغرافى.
وحتى لا ندخل فى المماحكات وقراءات النيات، وما أكثرها وأقساها فى أرض العرب، دعنا نؤكد بأن العروبى الوحدوى الديموقراطى الإنسانى لا يقبل بوجود أى تمييز، من أى نوع كان وبأي مقدار ضد أى مكون من مكونات المجتمعات العربية، سواء بسبب العرق أو الدين أو المذهب أو اللغُة أو الثقافة، ولكنه يرى فى تمزيق أوصال أى دولة عربية خطرا وجوديا لا عليها وعلى شعبها فقط، وإنما يرى خطرا هائلا وتناقضا عميقا مع إيديولوجية القومية الوحدوية، فالنضال، نضال الجميع، يجب أن يكون فى سبيل مزيد من وحدة الدول العربية فى شتى المستويات، وذلك من أجل قدرة هذه الأمة على الوقوف فى وجه أعدائها من الصهاينة والاستعماريين وشركات الاستغلال والنهب، وقدرتها على بناء اقتصاد إنمائى متين، وبناء نهضة جامعة للخروج من التخلف التاريخى الذى يعيشه الوطن العربى كلًه، وللانتقال إلى نظام ديموقراطى سياسى واقتصادى عادل ينهى إشكاليات التمييز بكل أنواعها.
***
لسنا معنيين بتسمية وتفاصيل المناطق والفئات والأسباب، فهى كثيرة ومؤلمة وحقيرة، وإنما نحن معنيُون بإبراز عبثية الانخراط فى الفاجعة الجديدة، فاجعة التجزئة والتقسيم والتشظى التى تسعى الصهيونية ودوائر الاستخبارات الغربية لتجذيرها وتوسيعها وتنميطها فى طول وعرض وطن العرب باسم حق يراد به باطل، وهو سعى تجلى فى اغتصاب فلسطين، ويتجلى الآن فى بعض دول المغرب العربى وفى العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن وبعض دول الخليج العربى على سبيل المثال. فالهدف الصهيونى ــ الاستعمارى النهائى هو تجزأة المجزأ حتى تصل هذه الأمة إلى أقصى مراحل الضعف والقابلية للاستعمار، بل وعدم القابلية للنهوض والقوة والندية لأعدائها. إنه مشروع بدأ بسايس ــ بيكو ولا يريد أن يتوقف عند حدود حتى يخرج هذه الأمة من التاريخ.
موضوع تجزأة هذه الأمة فى مقابل توحيدها لم يعد موضوع أحلام وتمنيات وأفضلية، إنه موضوع واقعى وجودى بامتياز. ولذلك فحركة مقاومة التجزأة والنضال من أجل الوحدة يحتاجان، وبأسرع ما يمكن، وقبل فوات الأوان، لبناء جماهيرهما ومؤسساتهما وأدوات نشاطاتهما لتغيير الواقع الحالى. إنه موضوع صراعات إرادات، وموضوع تضحيات، وموضوع، تخطيط فى مواجهة تخطيط.
فى قلب ذلك البناء والتنظيم والنضال ينبغى أن نرى المكونات المظلومة يدا بيد مع غيرها، وذلك فى سبيل بناء مجتمعات ديموقراطية عادلة إنسانية بقيم أخلاقية رفيعة، تنهى المظالم وممارسات التمييز، لا أن تتوجه إلى إحداث مزيد من الآلام والفواجع فى أرض تموج بالضعف وبالآلام والفواجع.

علي محمد فخرو

صحيفة الشرق الأوسط