أصبح انتشار الإرهاب ظاهرة عالمية عابرة للدول تحت عناوين مختلفة، أهمها الحركات المسلحة الدينية، وبمضامين متنوعة، أبرزها تغيير النظم السياسية، وإسقاط الحكومات. وصارت تلك الظاهرة معضلة حقيقية تؤرق الكثير من الدول العربية والإسلامية، فضلاً عن دول الغرب، من حيث إنها أصبحت تُمثل تهديداً حقيقياً للاستقرار الداخلي، وبسببها تكبّدت هذه الدول خسائر كثيرة، ليس في الأرواح فحسب، بل أيضاً في حرمانها من استكمال مسيرة البناء والتشييد والاستثمار في حقول المعرفة ومجالات العلم المختلفة، وتحقيق نهضة تنموية على جميع الأصعدة.
ومن الخطأ البيّن ربط مظاهر التطرف والأصولية المتشددة بالدين الإسلامي تحديداً، أو حتى بأي دين سماوي آخر. ذلك أن استباحة الدماء، واستحلال الأعراض والأموال باسم الدين كشريعة، أو باسم التديّن كممارسة للشريعة، ليس من الدين في شيء.
إن الإشكال في أساسه إشكال فكرى مرتبط بسوء فهم تعاليم الدين والتطرف في تطبيقها، والتشدّد في ممارستها، مع وجود المناخ السياسي والوضع الاجتماعي المناسبين لتفريخ المتطرفين في زوايا التدين المشبوه، وقطعاً الأديان السماوية جميعها تبرأ من ذلك وتنبذه، ولا تدعو إليه[1].
* حقائق حول الإرهاب
ومن واقع التطور الخطير الذي مرت به ظاهرة الإرهاب دولياً في الآونة الأخيرة، وما نتج عنها من ردود فعل عالمية على كل المستويات الرسمية وغير الرسمية، فقد أصبحنا أمام مجموعة مهمة من الحقائق التي نوجزها في الآتي:
1. أصبح البعد الديني حاضراً بقوة في فكر وحركة التنظيمات الإرهابية، بغض النظر عن نوعية الديانة أو نمطها.
2. شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول فاصلة في مجريات النظام الدولي الراهن، حيث أصبح انتشار الحركات الإرهابية، بقدراتها التنظيمية وبأسلحتها الجديدة المتطورة، شكلاً رئيسياً من أشكال الصراع المسلح على الساحة الدولية، بل وأصبح يشكل بديلاً للحروب التقليدية في الكثير من الحالات.
3. تفتح التنظيمات الإرهابية المستندة في فكرها، وحركتها إلى البعد الديني، الباب حول بعض القضايا الجدلية الشائكة التي تفجر الحوار الدولي حولها منذ ظهور النظام العالمي الجديد في بداية التسعينيات، خاصة قضية صراع الحضارات.
وقد بدأت بعض الحركات المسلحة في ممارسة أدوار كانت في السابق حكراً على بعض الفواعل الرئيسية، على غرار الدول والمنظمات الإقليمية والدولية والشركات متعددة الجنسيات. فإلى جانب السيطرة على مناطق واسعة ببعض الدول، مثل سوريا والعراق، وإنشاء بعض المؤسسات الخدمية، بل وإصدار وثائق خاصة للسفر، اتجهت بعض تلك الحركات نحو تبني تفاعلات خارجية خاصة بها، تسعى من خلالها إلى التأثير في التطورات الإقليمية المحيطة بها.
وتكمن المفارقة في هذا السياق في أن بعض المواقف التي تتبناها تلك الحركات تجاه هذه التطورات لا يتصل بشكل مباشر بالصراعات المسلحة التي انخرطت فيها، مما يعني أنها تسعى إلى التحول إلى رقم مهم في العديد من الملفات الإقليمية، حتى لو كانت تلك الملفات لا تؤثر بدرجة كبيرة فى موقعها الحالي.
لكن استمرار هذه الأدوار الجديدة التي تقوم بها تلك الحركات يعتمد على التداعيات التي سوف تفرضها الحرب ضد هذه الحركات، فضلاً عن الصراعات المتصاعدة بين تلك الحركات وبعضها بعضا. وتتعدد المؤشرات الدالة على توجه بعض الحركات المسلحة إلى تبني تفاعلات خارجية خاصة بها. ويتمثل أبرزها في[2]:
– إرسال مساعدات إنسانية عابرة للحدود: فمنذ نوفمبر 2012، قام تنظيم “أنصار الشريعة” في ليبيا بتنظيم حملات إغاثة متعددة لتقديم مساعدات إلى بعض المناطق التي تواجه أزمات مختلفة، مثل قطاع غزة، وسوريا، والسودان.
– فتح مكتب تمثيل سياسي: افتتحت حركة “طالبان” الأفغانية، رسمياً في 18 يونيو 2013، مكتباً سياسياً لها في العاصمة القطرية الدوحة، وذلك بهدف تسهيل المفاوضات التي تجري بين “طالبان” والمجلس الأعلى للسلم في أفغانستان، أو بين “طالبان” وبعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي رحبت بتأسيس المكتب في الدوحة.
– إجراء مفاوضات: دخلت بعض الدول في مفاوضات مع العديد من تلك التنظيمات للإفراج عن أسرى أو مختطفين، على غرار المفاوضات التي جرت برعاية قطرية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة “طالبان” لإبرام صفقة تبادل أسرى، في بداية يونيو 2014، قضت بإطلاق سراح الجندي الأمريكي المحتجز لدى طالبان “بوي بيرغدال” مقابل الإفراج عن خمسة قادة رئيسيين من “طالبان” في معتقل جوانتانامو.
وقد أثارت تلك الصفقة جدلاً واسعاً داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الانتقادات التي وجهها بعض النواب الجمهوريين لإدارة الرئيس باراك أوباما، والتي تركزت على أن الصفقة “تعرّض الأمريكيين للخطر”، على أساس أن ذلك ربما يشجع بعض التنظيمات على تبني السياسة نفسها للضغط على واشنطن. وقد تكررت تلك الصفقات، خلال الفترة الأخيرة، لاسيما في سوريا، وذلك لإبرام صفقات تبادل أسرى أو مختطفين.
– تبني مواقف محددة تجاه العديد من القضايا الإقليمية: ففي اليمن، أطلق زعيم حركة “أنصار الله” عبد الملك الحوثي، في 4 أغسطس 2014، دعوةً للخروج في تظاهرة للتضامن مع قطاع غزة والشعب الفلسطيني، والتنديد بالممارسات الإسرائيلية، إلى جانب رفض قرارات الحكومة برفع أسعار الوقود. كما ندد في “اليوم العالمي للقدس”، في 25 يوليو 2014، بالسياسات الأمريكية والإسرائيلية، وجدد دعوته لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. في حين رأى الأمين العام لـــ”حزب الله” اللبناني حسن نصر الله أن اتفاق جنيف النووي “المرحلي”، الذي وُقّع بين إيران ومجموعة “5+1” في 24 نوفمبر 2013، “كرّس لتعدد الأقطاب في العالم، بما يعطي فسحة لدول العالم الثالث في البحث عن حلول.
* حسابات متعددة
ويمكن تفسير اتجاه العديد من الحركات المسلحة الإرهابية إلى تبني تفاعلات خارجية خاصة بها في ضوء عددٍ من الحسابات التي تتلخص في:
1. اتجاه العديد من القوى الإقليمية إلى تأسيس علاقات قوية مع بعض “الفاعلين من غير الدول” المنتشرين في المنطقة، بشكل أدى في بعض الأحيان إلى تبني هذه الأطراف الأخيرة لمواقف خارجية ربما لا تتوافق مع السياسة التي تتبعها الدول التي تنتمي إليها، على غرار موقف “حزب الله” من الأزمة السورية، والذي لا يتوافق مع مبدأ “النأي بالنفس” الذي التزمت به الدولة اللبنانية، والذي يتأسس على عدم الانخراط في الأزمة تجنباً للتداعيات المحتملة التي تفرضها على لبنان، وهو ما يعود إلى حرص الحزب، بالتنسيق مع إيران، على تمكين نظام بشار الأسد من تحقيق انتصارات نوعية، واستعادة المبادرة في صراعه مع قوى المعارضة المسلحة.
2. تصاعد حدة الاستقطاب الطائفي في المنطقة، بشكل دفع كثيراً من الحركات المسلحة إلى الانخراط في صراعات إقليمية بعيدة عن حدودها، على غرار جماعة “الحوثيين” اليمنية، التي تشير تقديرات عديدة إلى إرسالها بعض مقاتليها لدعم قوات نظام بشار الأسد في صراعها مع قوى المعارضة المسلحة، رغم اتجاهها بعد ذلك إلى تقليص هذه المشاركة، في الفترة الأخيرة، على خلفية التطورات المتسارعة التي طرأت على المشهد السياسي اليمني. فضلاً عن بعض الميليشيات متعددة الجنسيات التي تقاتل في سوريا إلى جانب القوات النظامية.
3. تجاوز كثير من أزمات المنطقة نطاقاتها الداخلية لتتحول إلى صراعات إقليمية ممتدة بشكل فرض عقبات عديدة أمام الوصول إلى تسويات بشأنها، خاصة أن تلك التسويات لم تعد ترتبط بالتوازنات السياسية في الداخل فحسب، وإنما تعتمد أيضاً على حسابات ومصالح القوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيها.
4. حرص هذه الحركات على توسيع قاعدة أنصارها ومؤيديها، من خلال تبني مواقف تجاه بعض القضايا التي تحظى باهتمام خاص، لاسيما في ظل المواجهات المسلحة التي تخوضها، والتي تزيد من حاجتها إلى تجنيد مقاتلين جدد في صفوفها.
[1]عبد المنعم نعيمي، غياب المرجعية الدينية المؤسساتية وإشكالية التطرف الديني: أهمية المرجعية الدينية المؤسساتية في الحد من التطرف الديني، دراسة منشورة على: https://www.makacloud.com/post/z2og382zs
[2]وحدة العلاقات الإقليمية، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، أدوار جديدة: أبعاد ومحددات السياسة الخارجية للميليشيات المسلحة في الإقليم، 11/1/2015.
د.هالة الهلالي
مجلة السياسة الدولية