استدعت وزارة الخارجية العراقية أمس السفير المصري في بغداد وسلّمته مذكرة احتجاج في خصوص تصريحات لشيخ الأزهر أحمد الطيب وجه فيها اتهامات للميليشيات الشيعية الموالية للحكومة والمعروفة باسم «الحشد الشعبي» بارتكاب مجازر «ضد أهل السنّة» في العراق.
إضافة إلى ذلك أصدرت وزارة الخارجية العراقية بياناً للسفير أحمد درويش قالت فيه إن «أبطال الحشد الشعبي لبّوا نداء الوطن لتحرير أراضيه من دنس وسيطرة تنظيم عصابات خارجة عن قيم الدين والإنسانية».
تميّزت تصريحات شيخ الأزهر بالشدة فقد وصف عناصر «الحشد الشعبي» بـ»الميليشيات الشيعية المتطرفة» واتهمها بالقيام بـ»جرائم بربرية نكراء» مطالباً بـ»تحرّك عاجل لوقف المجازر».
الواضح أن الطيب يتصرّف بما يفترض أن منصبه يستوجبه منه، فمركز شيخ الأزهر، في نظر كثيرين، هو المرجعيّة الرسميّة الأعلى للمذهب السنّي في العالم الإسلامي، وهي مرجعيّة تتجاوز، في ذاكرة شيوخ الدين الإسلامي (السنّي في هذه الحالة)، جغرافية بلادهم، وفي تراث هذه الذاكرة شخصيات تاريخية مؤثرة، تحوّلت تجاربها إلى ما يشبه المخيال الجمعي الإسلامي، كأبي حنيفة وابن حنبل وسفيان الثوري وعز الدين بن عبد السلام، غير أن الفارق أن أغلب مواقف رجال الدين أولئك كانت موجّهة ضد أولياء الأمر والسلطان والغلبة، وقد قاسوا في سبيل ذلك مشقّات العسف والسجن والتعذيب.
الواضح من رد الفعل الرسميّ العراقي على شيخ الأزهر أن تصريحاته تشكّل سابقة، وهي، إذا كانت كذلك، فهي تحتمل التساؤل والتفكّر؛ فما الذي جعل الشيخ يتذكّر سنّة العراق الآن كما لو أن الانتهاكات التي يتعرّضون لها لم تسبقها أعوام من الاضطهاد والقهر والإقصاء والتعسف؟ وهل يتعلّق الانتباه الحالي لمعاناة «أهل السنّة في العراق» بموقف دينيّ بحت، أم أن له خلفيّات سياسية تتصادى مع أجندات الحكم المصري حالياً؟
إضافة إلى هذه الأسئلة المهمة فإن موقف شيخ الأزهر يسلّط، فجأة، الضوء على إشكاليّة دينية وسياسية كبيرة ألا وهي العلاقة بين «السنّة» كتوصيف اجتماعي يتعلّق بجماعة بشرية تتعرّض للاضطهاد، وبين «السنّة» كمذهب دينيّ؛ ولا يصعب الحكم على أن منطلقات شيخ الأزهر النظرية حول المسألة تتعلّق بالدفاع الأيديولوجي عن أصحاب المذهب الديني وليس بالدفاع عن جماعة بشرية تتعرّض للاضطهاد، لأن الموقف الأخير يفترض موقفاً سياسياً يقف مع المظلومين بغضّ النظر عن دينهم وإثنيتهم، وهو موقف ما زال بعيداً عن منظومة التفكير الأزهرية بالتأكيد.
هذا الخلط بين السياسيّ والدينيّ يمارسه من يدّعون نصرة «السنة» كجماعة بشرية، كما يفعله خصومها من عناصر «الحشد الشعبي» الذين لا يمكنهم، أيديولوجياً، التفريق بين السنّة كجماعة بشرية وبين تنظيم «الدولة الإسلامية» الذين يحاربونه، وهو السبب الأساسي في كونهم يرتكبون الانتهاكات، فكلّ «السنّة»، أكانوا مسلّحين، أو مدنيين، متطرّفين أو معتدلين، هم «نواصب»، يناصبون آل البيت العداء، ولكن، والحق يقال، فإن الطبعة المعاكسة لمن يعتبرون الشيعة «روافض» يحلّ قتالهم، هم غلاة السنّة ومتطرفوهم وليس جمهورهم العامّ الذي ما زال يجد أنصاراً كثراً لـ»حزب الله» الشيعيّ وإيران (وليّ الفقيه) رغم اشتداد أوار الحرب الطائفية وانفلاتها من عقالها.
في الحروب المذهبية يمارس كل طرف «الجهاد» المقدّس ضد أخيه المفترض في الدين نفسه الذي يجمعهما، ويصبح الواحد مقلوب الآخر، وعندها نرى مشاهد عجيبة، من قبيل أن تدافع حكومة «كل العراق» عن الانتهاكات البشعة التي تمارسها جماعة مذهبية ضد أخرى، ويدافع شيخ الأزهر عن المظلومين من «أهل السنّة» في العراق… وينسى إخوانهم في مصر!
القدس العربي