كشفت الثورات العربية عن تحولات في المفهوم التقليدي للسيادة الذي طُرح في الأدبيات السياسية باعتباره يتمثل في ثلاثة عناصر هي: الشعب، والإقليم، والسلطة. فقد شهدت بعض الدول العربية نمطًا جديدًا يتمثل في تعدد مراكز السيادة، إذ لم تعد الدولة في صورتها التقليدية هي الفاعل المركزي الوحيد، في ظل تعدد السلطات التنفيذية المتمثلة في الحكومات سواء الشرعية أو المؤقتة، فضلا عن وجود ازدواجية في السلطات التشريعية، علاوة على وجود أكثر من جيش أو تنظيم مسلح داخل الدولة ذاتها. وقد فرض انتشار تلك الأنماط تداعيات سلبية على بنية الدولة الوطنية، يأتي في مقدمتها تزايد فرص تفتت الدولة المركزية، وارتفاع معدلات العنف والإرهاب، واتساع نطاق التدخلات والاختراقات الخارجية لبعض الدول العربية.
مظاهر متعددة:
كان تشكيل حركة “حماس” الفلسطينية للحكومة في قطاع غزة، بعد الانتخابات التي أجريت في عام 2005، مقابل سيطرة حركة “فتح” على السلطة في الضفة الغربية، أحد أبرز تلك الأنماط المتعلقة بـما يسمى بـ”السلطة ذات الرأسين”. لكن بعد ذلك، قدمت دول الثورات العربية، مثل ليبيا واليمن وسوريا، نماذج وأنماطًا أكثر وضوحًا لازدواجية وتعدد مراكز السيادة داخل الدولة ذاتها، حيث تطورت عدةُ أنماط ومظاهر جديدة، يُمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تعدد السلطات التنفيذية: تأتي مسألة التمثيل الشرعي للشعب السوري في مقدمة الأمثلة الدالة على ذلك. ففي الوقت الذي يؤكد فيه نظام بشار الأسد، وحلفائه، على أنه الممثل الشرعي الوحيد والسلطة السياسية الوحيدة؛ فإن ثمة أطرافًا دولية وداخلية أخرى تدعم الحكومة السورية المؤقتة، التي شكلها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. ويتكرر الأمر ذاته في حالة ليبيا، لا سيما بعد تشكيل حكومتين في ليبيا: الأولى في طبرق بقيادة عبدالله الثني، وهي الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًّا، والثانية في طرابلس بقيادة عمر الحاسي ويطلق عليها حكومة الإنقاذ الوطني. وفي اليمن أيضًا انتشر نمط ازدواجية السلطة الحاكمة بعد قيام الحوثيين بالسيطرة على مقاليد السلطة، وانتقال الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى مدينة عدن، التي أعلنها عاصمة مؤقتة للبلاد.
2- ازدواجية السلطة التشريعية: ويتجلى هذا النمط بوضوحٍ في حالة ليبيا عبر وجود برلمانين هما: برلمان طبرق الذي تعبر عنه الحكومة الشرعية، وبرلمان طرابلس الذي تعبر عنه الحركات الإسلامية المتشددة وفي مقدمتها جماعة “فجر ليبيا”، حيث يدعي كل منهما أحقيته في إصدار التشريعات والقوانين.
3- انتشار مراكز القوة العسكرية: إذ لم تعد فكرة حصرية استخدام القوة للدولة قائمة، ويتضح ذلك في عدة حالات، أبرزها سوريا وليبيا واليمن. ففي سوريا تتعدد مراكز السيطرة والتأثير بين القوات السورية النظامية، والجيش السوري الحر وحلفائه، وعناصر تنظيم “داعش”، فضلا عن قوات الحماية الكردية. ويتكرر الأمر ذاته على الصعيد الليبي، حيث تتصاعد حدة الصراع بين قوات الجيش الليبي التابعة للفريق خليفة حفتر، وقوات “فجر ليبيا”. وفي اليمن أيضًا تتزايد احتمالات اتساع نطاق المواجهات بين القوات التابعة للحوثيين، واللجان الشعبية التي أسستها القبائل، وجماعة “أنصار الشريعة” التابعة لتنظيم “القاعدة”.
تداعيات خطيرة:
فرض انتشار نمط لا مركزية السيادة، وتعدد مراكزها، حزمة من التداعيات السلبية، يأتي في مقدمتها، تصدع بنية الدولة الوطنية العربية وتعرضها لمخاطر التقسيم، لا سيما مع وجود نزعات انفصالية خاصة في ليبيا واليمن، فضلا عن طرح سيناريوهات متعددة لتقسيم سوريا إلى عدة دويلات، خاصة بعد سيطرة تنظيم “داعش” على مناطق واسعة من البلاد، وسيطرة الأكراد على بعض المناطق شمال سوريا، علاوة على انتشار الجيوش الموازية في بعض دول المنطقة. وتزداد الإشكالية في حالة ارتباط التقسيم بتوزيعات طائفية ودينية، خاصة في حالة العراق.
ويُضاف إلى ذلك، اتساع نطاق العنف والإرهاب، خاصة مع انتشار نمط تعدد مراكز القوة العسكرية التي أصبحت تمثل سمة شبه سائدة في بعض دول المنطقة، وعدم قدرة الدولة على حماية حقوق الشعوب في مواجهة تلك الجماعات، وهو ما أصبح يمثل دافعًا نحو الاعتماد على منطق القوة في التعامل مع المخالفين، سواء في المعتقدات السياسية أو المصالح المادية أو حتى في إطار صراعات السلطة التي باتت عاملا مؤثرًا في المعادلة السياسية في كثير من الدول، ومن ثم، فإن أنماط التعامل العنيف باتت إحدى نتائج تعدد مراكز السيادة. وتشكل مخاطر عمليات الاختراق والتدخلات الخارجية في دول المنطقة أيضًا أحد أهم وأخطر تداعيات تعدد مراكز السيادة، إذ لم تعد الدولة هي جهة الاتصال الوحيدة مع الأطراف الخارجية، بل شاركتها في ذلك الجماعات المسلحة الطائفية، فعلى سبيل المثال، يرتبط الحوثيون في اليمن بإيران، التي تؤسس علاقات قوية مع تيارات وقوى داخلية عراقية. ويتكرر الأمر ذاته في حالة ليبيا، من خلال فتح قنوات اتصال بين الجماعات المسلحة وبعض الأطراف الإقليمية الأخرى.
فرص العودة:
لم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد في المعادلة المجتمعية والسياسية في المنطقة العربية، إلا أن ذلك لا ينفي أن دورها ربما يتسع مرة أخرى على حساب بعض الفواعل الأخرى، ويتطلب ذلك في البداية إدراك قوة وأهمية هذه الفواعل، وتبني نهج “إدارة الصراع” معها باعتباره الأكثر واقعية بدلا من نهج “حسم الصراع” بشكل نهائي، أي عدم الاعتماد على منهج “المباراة الصفرية” في التعامل مع تلك الفواعل الجديدة، لا سيما مع تجاوزها قوة الدولة في كثير من الأحيان، وهو ما تشير إليه حالة الحوثيين في اليمن، بالإضافة إلى تطبيق استراتيجية قائمة على تحجيم تأثيرات مراكز السيادة الجديدة، سواء كانت سلطة تنفيذية أو تشريعية أو حتى عسكرية. لكن يظل العامل الحاسم مرتبطًا بقدرة الدول على تقليص أو الحد من اتساع نفوذ الأطراف الإقليمية والدولية باعتبارها تمثل عاملا هامًّا في تأجيج أو تقليص حدة الصراعات والتوتر بين الدولة وتلك الفواعل.