بعد حوالي عامين من قطع العلاقات الدبلوماسية معإيران، وبعد حوالي شهرين من تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بشأن نقل المواجهة مع طهران إلى الداخل الإيراني؛ يعود الحديث عنالعلاقات السعودية الإيرانية عبر وساطة عراقية لحل الأزمات العالقة بين البلدين.
ويتناول هذا المقال بالتحليل مساعي السعودية للتقارب مع إيران، في ضوء تصريح وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي بأنالرياض طلبت من رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الوساطة بينها وبين طهران، وأن الأخيرة أبدت موقفاً إيجابياً.
وفي ظل مطالبة دول الحصار -بقيادة السعودية- دولةَ قطر بقطع علاقاتها مع إيران؛ فهل تسعى السعودية إلى التفاهم مع إيران لإيجاد مخرج لأزمتها في اليمن؟ وما الذي يمكن أن يقدمه العراق في هذا المجال؟
علاقات على صفيح ساخن
إذا كان هناك من وصف للعلاقات بين السعودية وإيران فهو أنها “علاقات مأزومة”. ذلك أنه -خلال أكثر من ثلاثة عقود- سيطر على تلك العلاقات الخريف وربما الشتاء العاصف، ما عدا فترة الرئيس محمد خاتمي(١٩٩٧-٢٠٠٥). وحتى في مرحلته لم تسلم هذه العلاقات من أزمات مثل الملف النووي الإيراني وتفاعلاته، والاختلافات المتعلقة بأدوار إيران في المنطقة من قبيل دورها في العراق ولبنان وعلاقتها بالقضية الفلسطينية.
“إذا كان هناك من وصف للعلاقات بين السعودية وإيران فهو أنها “علاقات مأزومة”. ذلك أنه -خلال أكثر من ثلاثة عقود- سيطر على تلك العلاقات الخريف وربما الشتاء العاصف، ما عدا فترة الرئيس محمد خاتمي (١٩٩٧-٢٠٠٥). وحتى في مرحلته لم تسلم هذه العلاقات من أزمات مثل الملف النووي “
إن التصور السلبي الذي يسيطر على كل من طهران والرياض يكاد يكون عاملاً مهماً في وصف العلاقات بأنها “علاقات مأزومة”، فإيران والسعودية تعتبران نفسيهما لاعبيْن متنافسيْن على النفوذ والتأثير في المجال الحيوي السياسيللشرق الأوسط، كما أن ذلك التنافس يتجاوز المنطقة ليشمل آسيا وأجزاء من أفريقيا.
وقد عزّز من التنافس على التأثير موقع البلدين كمنتجيْن بارزيْن للنفط، مصدر الطاقة المهم في العالم والذي يسعى كثير من دول العالم للحصول إليه لتسيير حياتها وصناعاتها. الأمر الآخر المهم في التنافس الإيراني السعودي هو المرجعية الدينية التي يقدم كل طرف نفسه على أساسها، حيث تبرز الهوية الطائفية لهذا التنافس الذي تزايد بسبب التطورات السياسية، وبشكل مطرد بعدالغزو الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣.
حين اتخذت السعودية قراراً بإعدام ٤٧ شخصاً منهم رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، دخلت العلاقة بين البلدين مرحلة من التوتر تخللتها هجمات على السفارة السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد، وانتهى الأمر بقطع العلاقات بينهما للمرة الثانية في عصر الجمهورية الإسلامية، حيث كانت المرة الأولى ١٩٨٨. قطع العلاقات للمرة الثانية قاد إلى عدم مشاركة الإيرانيين في الحج ٢٠١٦، كما ازدادت الحرب الكلامية بين الطرفين.
لا يتغير السياق العام للعلاقة المأزومة بين الرياض وطهران إلا من حيث تأثير التطورات السياسية وتفاعلاتها وكيفية تعامل كلا البلدين معها؛ فمثلا لم يتغير التنافس الإيراني السعودي بلبنان منذ الثمانينيات إلا في طبيعة الطرف القادر على تسجيل نقاط تفوق على الطرف الآخر.
إذ يُلاحظ تفوق إيراني مرحلي هناك عبر حزب الله بعد الربيع العربي، وذلك بالاستفادة من مفردة الربط بين ما يسمى التنظيمات الجهادية أو التكفيرية ومجتمع أهل السُّنة في لبنان، حيث تسعى إيران ومعها حزب الله للربط بين تلك التنظيمات والوهابية المرتبطة بالسعودية، الأمر الذي ترك آثاراً سيئة على المجتمع السني اللبناني. ويكاد نفس المشهد يتكرر في العراق حيث تمت تصفية المجتمع السُني عبر ترويج الربط بينه وبين تلك الجماعات التي هي بالنسبة لإيران منتج وهابي.
لم يكن العراق بالنسبة للسعودية إلا شبه مقاطعة إيرانية، لذا فقد تغيبت عن الحضور الدبلوماسي العراقي سنوات طويلة حتى بادرت إلى إرسال أول سفير لها وهو ثامر السبهان في يونيو/حزيران ٢٠١٥، وحاولت الرياض -عبر تلك الخطوة- مناطحة طهران على الأرض العراقية، الأمر الذي قاد إلى اعتبار السفير شخصاً غير مرغوب فيه بالعراق عام ٢٠١٦.
هل تعود العلاقة بين الطرفين؟
كما سبقت الإشارة؛ صرّح وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي -من العاصمة الإيرانية- بأن السعودية طلبت من الحكومة العراقية التوسط بين الرياض وطهران. جاء هذا التصريح بعد زيارة الوزير للرياض حيث استقبله ولي العهد السعودي نائب الملك الأمير محمد بن سلمان.
“لم يكن العراق بالنسبة للسعودية إلا شبه مقاطعة إيرانية، لذا فقد تغيبت عن الحضور الدبلوماسي العراقي سنوات طويلة حتى بادرت إلى إرسال أول سفير لها وهو ثامر السبهان في يونيو/حزيران ٢٠١٥، وحاولت الرياض -عبر تلك الخطوة- مناطحة طهران على الأرض العراقية”
وسبق هذا التصريحَ لقاءٌ خاطف تخلله إلقاء التحية بين وزيريْ خارجية البلدين محمد جواد ظريف وعادل الجبير، فيتركيا على هامش اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي.
ردت طهران -عبر الناطق باسم وزارة خارجيتها بهرام قاسمي- بقولها إنها ترحب بالمقترح، لكنها ترى أن أمام السعودية الكثير من العمل حتى تؤدي مثل هذه الوساطة إلى علاقة طبيعية بين البلدين، الإشارة هنا بالتحديد كانت إلى اليمن حيث كررت طهران موقفها القائل إن ما فعله التحالف العربي -بقيادة السعودية- في اليمن أضاف المزيد إلى معاناة اليمنيين، ولم يساهم في التخفيف من أزمتهم السياسية.
وفي أعقاب كل تلك التطورات؛ صدرت تصريحات من الرياض -عبر وكالة الأنباء الرسمية السعودية- بأنها لم تطلب مثل تلك الوساطة، وأن موقفها المنتقد لإيران وسياستها في المنطقة لم يتغير.
يصعب القبول بأن تصريحات وزير الداخلية العراقي لا أساس لها، حيث تكلم الرجل أمام وسائل الإعلام بثقة تبعه فيها الناطق باسم الخارجية الإيرانية، لكن ثمة ما قد يفسر التراجع السعودي عن فكرة الوساطة العراقية، وربما يرتبط ذلك بالمشهد السياسي العراقي أولاً. إذ يستعد العراق لانتخابات في العام القادم (٢٠١٨) بدأت الكتل السياسية الاستعداد لها.
وبينما يتحدث نوري المالكي -وهو عدوٌّ للرياض- عن تأجيل الانتخابات؛ يرفض ذلك رئيسُ الوزراء الحالي حيدر العبادي وكذلك رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. وبالتالي قد تكون فكرة الوساطة بالون اختبار متعدد الأهداف، حيث يختبر النوايا الإيرانية من فكرة المصالحة مع الرياض، ويختبر ردود أفعال القوى السياسية العراقية من تلك الفكرة.
فقد تساعد تلك الوساطة العبادي وفريقه داخلياً في تسجيل نقطة تفوق في السياسة الخارجية يضيفونها إلى ما يراه العبادي إنجازات حققها بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، واستعادة المدن العراقية التي كان التنظيم يسيطر عليها كالموصل وتلعفر. ويمكن أن يدعم مثل هذا التحليل -وكذلك التراجع السعودي- عدمُ وجود حماسإيراني كبير لطلب الوساطة، وأيضا انعدام ردود فعل لافتة من الداخل العراقي.
“”لا شيء مستحيلا في السياسة”، تلك مقولة يرددها المتفائلون في قراءتهم للمستقبل، لكن هذه المقولة ربما تواجه عقبات في تطبيقها على حالة العلاقة بين إيران والسعودية، ذلك أن هذه العلاقة -بشكلها الحالي ومنذ الثورة الإيرانية- لا تميز بين ما هو سياسي وما هو ديني، مما يعصف دائما بالعلاقات مهما تحسنت”
والسؤال الذي ربما يُطرح هو: ما سبب غياب الحماس الإيراني لفكرة الوساطة؟ والإجابة تكمن في رغبة إيران في أن تكون هي المسيطر على مفردات المشهد السياسي الداخلي العراقي قبل الانتخابات، كما أنها -وبلا شك- على معرفة واسعة بالنخبة السياسية العراقية ومدى قدرتها على لعب دور الوساطة.
وكل هذا يثير سؤالاً آخر حول غياب وسطاء يمكن أن تستمع لهم طهران أكثر مثل سلطنة عُمان أو الكويت أو روسيا؟ والجواب ربما يكمن في رغبة الرياض في ألا تمنح أيا من هؤلاء اللاعبين نقطة تفوق سياسية، في وقت تنتقد فيها السعودية -ومعها الامارات والبحرين ومصر– علاقات قطر مع إيران وتطالب بقطع تلك العلاقات. ومن هنا يمكن فهم اختيار العراق بوصفه دولة ضعيفة سياسياً، وتكاد تكون تابعة لطهران على الأقل وفق النظرة السعودية.
إن اختيار وسيط غير العراق يبدو أكثر مناسبة، خاصة إن كانت لديه قدرة على تحريك المياه الراكدة بين البلدين، بل والتأثير على قضايا مهمة مثل أسعار النفط المنخفضة والتي تعاني من نتائجها كل من الرياض وطهران، التي تبدو محتاجة إلى أن يرتفع سعر النفط لمواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة.
“لا شيء مستحيلا في السياسة”، تلك مقولة يرددها المتفائلون في قراءتهم للمستقبل، لكن هذه المقولة ربما تواجه عقبات في تطبيقها على حالة العلاقة بين إيران والسعودية، ذلك أن هذه العلاقة -بشكلها الحالي ومنذ الثورة الإيرانية- لا تميز بين ما هو سياسي وما هو ديني، مما يعصف دائما بالعلاقات مهما تحسنت ويدفع بها إلى ما قبل نقطة الصفر.
إن الصورة السلبية -التي يحملها كل نظام عن الآخر- مرتبطة بالحالة الدينية؛ فإيران بالنسبة للسعودية دولة شيعية تتوسع، والسعودية بالنسبة لإيران دولة وهابية لا يخلو فكرها الديني من التكفير. ومثل هذه الصورة السلبية وما يبنيه عليها كل طرف -مستفيداً من التطورات السياسية- يجعل فكرة عودة العلاقات غير ممكنة، أو أنها على الأقل إن عادت ستكون مستندة إلى أسس هشة واهنة، سرعان ما تعصف بها خطوب السياسة.
محجوب الزويري
الجزيرة