لن تفضي معركة تلعفر إلى واقع عسكري فارق جديد، فالمدينة التركمانية محاصرة منذ شهور، ومحيطها الحيوي الذي كان يفصل الموصل عن الحدود السورية هو بيد ميليشيات الحشد الشعبي، والقوى الكردية المسلحة، وظلت مسألة السيطرة على المدينة قضية وقت بانتظار الانتهاء من الموصل.
لكن القضية الاكثر اهمية المتعلقة بتلعفر ليست المسألة العسكرية، بل تتمحور حول وضع المدينة وتركيبتها التركمانية المنقسمة بين الشيعة والسنة، إذ تتوزع أحياء المدينة بين أحياء ذات أغلبية شيعية واخرى سنية، ظلت تعيش توترا متصاعدا منذ احتلال العراق عام 2003، عندما اختار شيعة تلعفر معارضة حركة التمرد المسلحة ضد القوات الامريكية في العراق، التي انخرطت بها الفصائل السنية المقاومة للاحتلال، وهو انعكاس محلي للتباين نفسه في مواقف مكونات العراق العرقية والطائفية، أزاء مسألة الوجود الامريكي في العراق.
ومنذ ذلك الحين، ظلت مسارات معظم القوى العسكرية والسياسية متوازية في تلعفر، وفي كل العراق، فالمناطق السنية التي اختارت المقاومة منذ البداية ظلت تنتج فصائل وقوى مسلحة تعارض هيمنة الشيعة والكرد على السلطة في العراق، ورغم احتواء بعضها في العملية السياسية كـ»حماس» العراق وبعض أجنحة الجيش الإسلامي، الذين انخرطوا حتى في تشكيل الصحوات، إلا أن الأجنحة الأكثر راديكالية في حركة التمرد المسلحة ظلت عصية على التدجين، ورفضت قبول التعايش مع حكومة بغداد، وكذلك القوى الحزبية والعسكرية التي دعمت الوجود الامريكي بالعراق ظلت تجني المكاسب بعد خروجهم، وهذا المسار المستمر منذ الاحتلال، ينطبق حتى على شخصيات سنية عسكرية موالية للجيش الامريكي في العراق وتلعفر ، فاللواء نجم الجبوري الذي كان مسؤولا للشرطة في تلعفر، وتولى مواجهة التمرد العسكري ضد القوات الامريكية وقوات الحكومة في تلعفر، هو نفسه الذي زجه الامريكيون اليوم ضمن قيادة العمليات العسكرية في الموصل بعد 13 عاما، والجهاديون التركمان الذين خاضوا المواجهات العنيفة في تلعفر ضد الامريكيين وأذكوا التوتر الطائفي مع جيرانهم الشيعة، هم انفسهم الذين انخرطوا في دولة العراق الاسلامية، ومن ثم تنظيم «الدولة في العراق والشام» اليوم، بل أصبحوا من أبرز قادته العسكريين والاداريين في الموصل، متبوئين مناصب تصل لنيابة البغدادي زعيم التنظيم، وهذا ما جعل قضية الدور التركي في الموصل وتلعفر تحديدا معقدا وغير قابل للنجاح، فمعظم شيعة تلعفر يتطابقون مع موقف الاحزاب الشيعية وحكومة بغداد في موقفهم المعارض لحكومة اردوغان والتدخل التركي، وبالمقابل فإن نسبة من سنة تلعفر انخرطوا مع تنظيم «الدولة» وهم أيضا معارضون لتدخل الحكومة التركية، وهذا ربما هو ما جعل التدخل التركي، إن تم، غير ذي جدوى في بلدة تركمانية اتخذ كثير من ابنائها مواقف فكرية معارضة لاشقائهم الاتراك في الاناضول، بسبب اختلاف البيئة المحلية في العراق. اما التركمان الذين كانوا مؤيدين لحكومة اردوغان والتدخل التركي، فقد ظلوا مقتنعين بأن عدم تنفيذ الهجوم على تلعفر في الفترة الماضية كان بسبب معارضة تركيا، وهذا طبعا موقف رغبوي لا أساس له في واقع التوازنات، وسبق أن وقع فيه سنة الموصل العرب، الذين توهموا أن حكومة اردوغان قادرة على فعل شيء في معركة الموصل، أو قبلها في معركة حلب. وهكذا فإن الأوضاع في تلعفر بعد الهيمنة عليها، ستشهد تأزما كبيرا على الصعيد الطائفي، من محاولات انتقام وثأر وتطهير ديمغرافي، خصوصا أن قوى الحشد الشعبي الطائفية هي من تولى محور تلعفر ومحاصرة المدينة منذ شهور، بعد أن اولت قيادة الاحزاب الشيعية التي انبثقت عنها ابرز شخصيات حكومة بغداد وقيادات فصائل الحشد الشعبي، أهمية كبيرة لتلعفر وشيعتها التركمان الذين تعرضوا لضغوط كبيرة في محيط جهادي اصولي، وهو مشهد يذكرنا ببداية المواجهات قبل عامين ضد تنظيم «الدولة»، في قرية شيعية تركمانية اخرى وهي آمرلي في محافظة ديالى، حيث منحت قوات الحكومة وفصائل الحشد الشعبي، المشكلة حديثا بقيادة العامري والخزعلي حينها، الأولوية لفك حصار بلدة آمرلي التي أطبق عليها تنظيم «الدولة» بعد اسابيع من سيطرته على الموصل.
وائل عصام
صحيفة القدس العربي