ذكرت «القدس العربي» في تقرير نشرته حادثة كاشفة بمعانيها ودلالاتها حين روت على لسان أم كلثوم، ابنة الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ، أن «قلادة النيل»، وهي أرفع وسام تمنحه الدولة المصرية للعظماء، التي حصل عليها قبل نحو 29 عاماً، كانت مزيّفة، وأن الكاتب الشهير، الذي كان معروفا بترفعه وزهده، عرف بالأمر بعد يوم واحد من تسلّمه الوسام ففضّل الصمت وسكت على الإهانة التي وجّهت له وللدولة المصرية التي يُفترض أنها كانت تكرّم أعظم كتابها الأحياء آنذاك، وهو الأديب العربي الوحيد الذي نال جائزة نوبل للآداب (عام 1988).
المثير للسخرية أن الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك هو الذي سلّم محفوظ الوسام بنفسه، وهذا يعني واحداً من أمرين، أما أن مبارك كان يعلم بتزييف القلادة ويكون بالتالي مشاركاً في إهانة مقام الكاتب وفي تحقير كيان الدولة المصرية، أو أنه لم يكن يعلم، وأن الجهاز الحكوميّ الذي يشرف على صياغة هذه الأوسمة، أو أحد أفراده النافذين، قام بعملية فساد هائلة الرمزيّة من دون أن يخشى من انفضاح أمره، إمّا لمعرفته بترفع محفوظ الأخلاقي الذي سيمنعه من المساءلة أو الكشف عن هذه الفضيحة، أو لأنه يُدرك أنه قادر على الإفلات من المحاسبة، وفي الحالتين فإن جريمة اللصوصية والفساد تلك لا يمكن أن تكون بعيدة عن نفوذ أحد أفراد بطانة الرئيس الأسبق.
تتعلّق حادثة الفساد تلك بعمل يزن قرابة 488 غراما ذهباً محلاة بأحجار من الياقوت والفيروز الأزرق، وقيمة الذهب تعادل، في الأسعار الحالية له، أقل من عشرين ألف دولار، وهو أمر يكشف مقدار الخسة التي قد تدفع مسؤولا أمنيّا أو جهة حكومية للوصول لدرك من الانحطاط يؤهل صاحبه لارتكاب جريمة التزييف بترصّد ووعي كافيين ومن دون خشية من انفضاح الأمر، وهو أمر لا نعرف إن كان مورس على محفوظ فقط، لمعرفة بطباعه، ولأنه كاتب فحسب، أم أن التزييف لحق بأشخاص آخرين حصلوا على القلادة كالمطربة أم كلثوم، والجراح مجدي يعقوب، وعالم الكيمياء أحمد زويل.
التعليقات التي جرت على الحادثة أخذت مسارين، الأول استنكر ما حصل وساءل وزارة الثقافة والجهة الحكومية المسؤولة عن تصنيع الأوسمة وبعضها اتهمت نظام مبارك بالفساد، والثاني استهجن أقوال ابنة محفوظ، بل إن رئيس مصلحة سك العملة عبد الرؤوف ثروت قال إن الكلام غير صحيح وإن القلادة «يمكن أن تكون تم تبديلها» وتساءل «من يؤكد لنا أن هذه القلادة هي الأصلية؟».
تعليقات التشكيك تجعل من الإهانة اثنتين، مرّة عند تسليم القلادة واكتشاف زيفها، ومرة أخرى حين تتهم عائلة محفوظ بتبديلها رغم أنها تبرّعت بالقلادة إلى متحف خصص لتكريم الكاتب الراحل.
أما التعليقات التي تقصر الفساد على عهد مبارك فهي تدّعي أن الفساد انتهى إلى غير رجعة مع رحيل الرئيس الأسبق عن الحكم، فتتجاهل الروابط المكينة بين عهدي مبارك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي عملت أركانه التنفيذية والتشريعية والقضائية على محو كل آثار فساد وجرائم مبارك وأفرجت عن وجوه نظامه فيما زجّت بأركان حكم الرئيس محمد مرسي في السجون بتهم ثقيلة أحكامها تتراوح بين الإعدام والمؤبد.
بهذا المعنى فإن القلادة المزيّفة تطوّق أعناق أركان نظامي مبارك والسيسي معاً، وما يجري هو شكل من أشكال التزييف التاريخي ليس تزييف القلادة إلا نقطة في بحره.
القدس العربي