لا يحتاج مستقبل داعش إلى الكثير من التنظير، أو لعدسة مكبرة، لإدراك أنه باقٍ إلى حين، دون فرصة كي يبقى، أو يتمدد، حسب ما يأمل هو ومناصروه.
نعم، لتنظيم داعش أعضاء أقل، وأنصار أقل، الآن، خاصة بعد التناقص المتزايد للمتطوعين الأجانب في صفوفه، وبعد تزايد صعوبات الاتصال بين قادة صفه الأول والمجندين فيه ما بين العراق وسوريا.
فالتنظيم عراقي في أصله، على الأقل من حيث الجغرافيا، والفكرة، ابتداء من قاعدة الجهاد في العراق لصاحبها أبي مصعب الزرقاوي، إلى حين نشوء “المظلومية السنية” التي اندرج فيها “فدائيو صدام” وبقايا مخابراته، بالتعاون مع النظام السوري، وصولا إلى داعش (الدولة الإسلامية في الشام والعراق)، ومن ثم “الدولة الإسلامية”.
هنالك مبرر آخر للاعتقاد بعراقية التنظيم، وهو اقتصاده المعتمد على موارد عراقية بشكل رئيس، خاصة بعد استيلائه على الموصل، ومعظم أنحاء غرب العراق منذ يونيو 2014.
على المستوى العسكري البحت، يفترض محللون أن داعش خاض معارك الدفاع عن مواقعه، في عين العرب – كوباني والموصل وتلعفر والعياضية، بثلث قوته، دون أن يعرف أحد، يقينا، ما هي قوته، وما هو عدد الدواعش.
وجاهة الفرضية تبررها القوة المتبقية للتنظيم بعد كل معركة، حتى لو كان لا يمتلك مقومات الدفاع أمام طيران التحالف، ما يشير ترجيحا إلى أنه يمتلك ثلثي قوته بعد معارك دامت شهرين على الأقل في كوباني، وتسعة أشهر على الأكثر في الموصل. أما المعارك القصيرة فكانت مجرد انسحابات، أو تسليم وتسلّم، في كل من تل أبيض وتدمر.
الكلام على الثلث والثلثين، أو أي من النسب، لا يفيد دون معرفة العدد تحديدا، لكن أحدا لا يعرف عدد الدواعش، إلا التنظيم نفسه
وبالقياس إلى منطق أولئك المحللين، سيخسر داعش في آخر معاقله في دير الزور ثلث قوته المجمعة المتناقصة، وسيحتفظ بثلثي قوته المتبقية المتناقصة، أيضا، في “لا مكان” من سوريا والعراق بشكل رئيس، مع ذئاب نصف نائمة نصف مستيقظة في غرب آسيا وأفريقيا وأوروبا، وربما في شرق آسيا، وأميركا.
إذا، فرضية تناقص عدد مقاتلي داعش ومنتسبيه منطقية، لكن هذا التناقص يصيب الثلث أكثر من الثلثين، دون تأكيد أن الثلث يفنى كليا بعد كل معركة دفاعية عن مواقعه الحالية المتناقصة.
قد نقبل هنا موت الفكرة، دون أدنى درجة من الشك أن حملة الفكرة الداعشية قد ماتوا جميعا، فعلى الأغلب أن الفكرة سيتم تحريفها، لتظهر تحت اسم جديد، يكون قد راجع أفكار الداعشية، كما راجعت القاعدة، وتنظيمات وأحزاب أخرى قبل ظهورها، ثوبا سلفيا آخر سابقا عليها، لكن ذلك لا يعني أن داعش المستقبل سيكون أقل تطرفا وفقا للاتجاه العام لفكرة المراجعة.
ومع قبول فكرة احتفاظ داعش بثلثي قوته على الأقل بعد الهزيمة في آخر المعارك الكبرى ضده في دير الزور، سيكون علينا القبول بفكرة أن حملة الفكرة الجديدة سيخلدون إلى راحة مديدة يعطيهم إياها صانعوه المباشرون، حسب نظرية المؤامرة، أو الصانعون المعنويون غير المباشرين، بنبذ نظرية المؤامرة، ليختار النائمون الوقت المناسب للظهور.
وحتى قبل الراحة الداعشية، استطاع داعش بالثلثين التنقل من مناطق المعارك إلى معاقل أخرى، ومن ثم إلى “لا مكان” حين يسيطر المهاجمون على المعاقل المعلومة، فثلثا داعش كوباني انتقلوا إلى جرابلس ومنبج، وثلثا داعش منبج انتقلوا إلى الرقة، وثلثا داعش الموصل توزعوا بين مناطق في غرب العراق ودير الزور، كما انتقل ثلثا الدواعش من تدمر، وفي أكثر من مرة، إلى مناطق في ديرالزور، تحت سمع ونظر طيران النظام السوري، والطيران الروسي، وطيران التحالف.
إلى هنا، من السهل الظن أن القيادات تنفذ أوامر أولي أمر التنظيم، والذين يعتقدون أنهم يمتثلون لتكتيك قادته العسكريين وفتاوى مشرعيه، من باب طاعة أولي الأمر الذين يعرفونهم.
مبرر هذا الضجيج الذي أُثير عن اتفاق حزب الله مع قادة داعش، وطريقة ترحيلهم بحافلات مكيفة من شرق لبنان إلى دير الزور، وبقاء عدد من القادة في لبنان للتعاون أمنيا مع “الحزب” في تنظيف الجيوب السرية للتنظيم، وفق ما نقلت وسائل إعلام لبنانية.
فكرة داعش سيتم تحريفها لتظهر باسم جديد يكون قد راجع الأفكار الداعشية كما راجعت القاعدة ثوبا سلفيا سابقا عليها
هذا الضجيج غير مبرر لأن الاتفاق بين الحزب وداعش مسبوق، ابتداء باتفاق التنظيم مع النظام السوري لتزويده بنفط وغاز دير الزور عبر وسيط منذ سنوات.
كما أن طريقة تبادل السيطرة بين داعش والنظام على تدمر مرتين خلال السنتين الأخيرتين جرت بالاتفاق ضمنا، وإن لم تكن معلنة، بدليل التجاور المديد بين داعش والنظام في مواقع في شرق حماة، وشرق حمص، وشرق وشمال حلب، دون حدوث صدامات كبيرة بينهما، على عكس المعارك بين النظام والنصرة، أو بين النظام والجيش الحر، أو بين داعش وفصائل إسلامية معارضة.
الآن، ربما سيزداد عدد مقاتلي داعش إلى أكثر من الثلثين هذه المرة بانتقال العشرات من عناصره إلى دير الزور وفق الاتفاق مع ميليشيا حزب الله لأن الاتفاق شمل كل عناصر داعش في لبنان، أو هكذا يعتقد حزب الله.
وبالنظر إلى اقتراب معركة دير الزور، ستكون محصلة عدد ثلثي داعش بعد المعركة أكبر من الثلثين قبل الاتفاق مع حزب الله، ما قد يعني أن داعش قد يولي مهمة الدفاع عن محافظة دير الزور التي يسيطر على 95 بالمئة منها إلى ربع عدده، وليس الثلث، لينام 75 بالمئة من ذئابه في انتظار جولة جديدة من المعارك.
بالطبع، الكلام على الثلث والثلثين، أو أي من النسب، لا يفيد كثيرا دون معرفة العدد تحديدا، لكن أحدا لا يعرف عدد الدواعش، إلا التنظيم نفسه الذي يتباهى بإخفاء هذه المعلومة، ليضحك في سره من تصريحات أعدائه، وإحداها الإعلان عن أن عدد الدواعش في الموصل قبل المعركة كان ستة آلاف، تم قتل حوالي 17 ألفا منهم حتى الشهر السابع من المعركة، ووصل العدد إلى 24 ألفا مع نهاية المعركة، ليجد الجيش العراقي وحشوده الشعبية بضع مئات من الدواعش في منطقة تلعفر، ومثلهم في ناحية العياضية، ويعرض أسراه من التنظيم برتل طويل من اللحى دليلا على أنهم دواعش!
على كل حال، لم تصل قافلة دواعش لبنان إلى مستقرها في الميادين، أو في البوكمال، بعد قطع التحالف الطريق على القافلة، فوقع الدواعش في “حيص بيص” نتيجة التجاذبات بين أعدائه، فمن طرف هناك إيران وحزب الله والنظام السوري وروسيا كرعاة للاتفاق، ومن طرف آخر هنالك أميركا والعراق الرسمي المتخوفان من زيادة كتلة الدواعش على الحدود العراقية السورية.
وعلى الأغلب، ستمضي ساعات أو أيام قبل إطلاق أولياء حزب الله سراح كفلائهم، لينتشروا في البادية كأهداف متحركة يصعب صيد أكثر من ثلثهم، أو أسرهم.
أخيرا، كل تلك الافتراضات لم نأت فيها على إمكانية تزايد أعداد داعش، وتكاثر عدد أفراد الثلثين منه، ولو بشكل طبيعي، خاصة أن التحالف والمتضامنين معه لا يتعجلون القضاء عليه بدليل معركة مدينة الرقة التي مضى على انطلاقها حوالي ثلاثة أشهر، في مواجهة بين 1500 من داعش، و30 ألفا من “قسد” التي تكونت في بداية “المعركة” من 15 فصيلا عسكريا تقودهم “قوات حماية الشعب” الكردية.
لكن “المعركة” ستستغرق شهرين آخرين، حسب “قسد”، المؤكد فيها تدمير نسبة كبيرة من بيوت وشوارع المدينة قد تبلغ الثلثين، قياسا بإنجازات الأشهر الثلاثة الماضية، في مقابل تحييد ثلث داعش من المعركة التالية.
علي العائد
صحيفة العرب اللندنية